ألقى وكيل الأزهر د. عباس شومان ، الكلمة الرئيسية في افتتاح ملتقي خريجي الأزهر بماليزيا والذي عقد اليوم الخميس 17 ديسمبر تحت عنوان "وحدة الأمة تسموا على أي خلاف". أعرب وكيل الأزهر عن سعادته لحضور ملتقى خريجي الأزهر بماليزيا الذي يضم أبناء الأزهر الشريف على بعنوان يحدوه الأمل والتفاؤل بوحدة الأمة الإسلامية وكيفية تحقيقها، موضحا انه عندما شرَع في كتابة كلمته وقف أمام عدة أسئلة ليتشارك فيها الحضور الفكر لطرح الحلول ، وهي: هل الأمة الإسلامية متفرقة وفي حاجة إلى الاتحاد؟ وهل الميراث الإسلامي من الكتاب والسنة ترك لنا خَيارا لنتحد أو لا؟ ولماذا هناك خلاف دائم داخل الدولة الإسلامية الواحدة في هذا الزمان تحديدا؟ أما السؤال الأصعب فهو: كيف وصلنا إلى هذه الحال؟ ولماذا تتداعى علينا الأمم؟ وما الذي يحول بين الشعوب الإسلامية وتحقيق الوحدة بينها؟. وأكد وكيل الأزهر إن ما يمر به العالم اليوم من أحداث مؤسفة أصابت كثيرًا من البشر في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وكوارثَ متلاحقةٍ متلاطمةٍ تلاطمَ أمواج مظلمة "ظلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ"، لم يكن عالمنا الإسلامي بمعزِل عنها، بل نال أمتَنا الإسلاميةَ منها ما لم ينل غيرها من الأمم، ونجح أعداء أمتنا في النيل من العديد من دولنا الإسلامية بأساليب متعددة، منها بث الفتن التي أشعلت حروبًا عسكرية بين دول إسلامية كما حدث بين العراق وإيران، وربما بين دول تنتمي إلى ذات القومية كما حدث بين العراق والكويت، ومنها الاستهداف الاقتصادي الذي بدأ بضرب اقتصادات النمور الآسيوية الصاعدة وفي مقدمتها بلدكم الكريم، واستخدام ذرائع وأكاذيب كادعاء امتلاك بعض الدول الإسلامية لأسلحة نووية أو دعمها للإرهاب وهو ما ترتب عليه تدمير أفغانستانوالعراق وليبيا وسوريا واليمن بأيديهم وأيدي بعض أبناء هذه الدول للأسف الشديد، وكذلك غض الطرف عن الفظائع التي تُرتكب من دول وجماعات عنصرية كإسرائيل التي تُنكِّل بأصحاب الأرض المغتصبة وتقتل الأطفال والشيوخ والنساء من الفلسطينيين على مرأًى ومسمع من العالم أجمع، وسكوت العالم على الجرائم التي ارتكبت في البوسنة والهرسك وفي الشيشان وغيرها من بلاد المسلمين، فضلًا عن الصمم والعمى الذي أصاب العالم عن الفظائع التي كادت تُجهز على وجود أثر للمسلمين كما يحدث في بورما إلى وقتنا هذا، وكان من آخر مصائب عالمنا الإسلامي تلك الجماعات الإرهابية التي زُرعت بيننا برعاية ودعم كبير من أعداء الأمة التاريخيين، واتخذت من خلافات محلية وقودًا لتنفيذ مخططات تستهدف الإسلام والمسلمين، والأدهى والأمَرُّ أنها تتستر بالدين ، وديننا من هذه الفظائع التي ترتكب في حق جميع البشر براءٌ براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وقال إن هناك العديد من التحديات التي تواجه العالم الإسلامي وتعوق تقدمه ونهوضه إذا لم تُفهم على وجهها الصحيح، منها: التعددية الدينية مؤكدا أن التعدد الديني لا يعد مشكلة بين المنتمين إلى بلد واحد إذا فهمنا أدياننا وبخاصة دينُنا الإسلاميُّ فهمًا صحيحًا، فقد علَّمَنا ديننا الإسلامي كيفية التعايش في ظل التعددية الدينية، وهي تتمثل في التعايش في ظل المشتركات الإنسانية وهي كثيرة جدًّا تشمل كل مناحي الحياة الاجتماعية، ويبقى جانب الاعتقاد والعبادة، ولا يضر علاقات البشر في أمور حياتهم اختلاف تعبدهم لخالقهم، فشعار ديننا الحنيف: «لا إكراه في الدين»، و«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»، وبهذه النظرة السمحة عرفنا أن كل الناس إما إخوة في الدين وإما نظراء في الإنسانية، وقد تعامل رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - مع غير المسلمين وجعل من عبد الله بن أريقط - وهو على غير الإسلام - دليله في رحلة الهجرة إلى المدينةالمنورة، وتعايش مع قبائل اليهود في المدينة وعقد معهم معاهدات سلام لم ينقض منها واحدة حتى نقضوها، وقد علِمنا من ديننا أن الأصل في التعامل بين المسلمين وغيرهم هو السلام، قال تعالى: «وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ»، وعلَّمنا ديننا حرمة دماء غير المسلمين غير المعادين للمسلمين كحرمة دماء المسلمين، وأنه لا يجوز الاعتداء عليهم في دم ولا عِرض ولا مال بأي صورة من صور الاعتداء، وأن المعتدي عليهم من المسلمين يعاقَب كما لو اعتدى على مسلم، ويكفينا في هذا قول رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم: «"من قتل معاهدًا لم يُرِح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفًا". وأكد أن المتذرعين باختلاف الدين في إحداث القلاقل بين أبناء البلد الواحد وارتكاب الجرائم واستحلال الدماء والأعراض والأموال بدعوى مخالفة الدين؛ لا يفهمون دينهم فهمًا صحيحًا، وعليهم مراجعة أنفسهم للرجوع لجادة الصواب، وعلى أولي الأمر ردعهم ولو بالقوة إن لم يرتدعوا بغيرها. وأشار إلى أن من أهم وسائل إيقاع الشقاق بين المسلمين تقسيمهم إلى مذاهب عقدية، أي تقسيمهم إلى سنة وشيعة، وإذكاء روح الخلاف بينهم لتصل إلى اتهام بعضهم الآخر بالبعد عن الإسلام. وأكد أنه لا ينبغي ألا يعد الخلاف الفقهي من الأسباب المؤثرة في استقرار المجتمعات المسلمة أو المعيقة لانطلاقتها نحو التنمية والتقدم، بل ينبغي أن يكون من عوامل التيسير على الناس في حياتهم، حيث إن الخلاف الفقهي بين المذاهب الفقهية المتعددة يرجع إلى أسباب علمية معروفة كاختلاف الدلالات اللغوية لبعض الألفاظ، والاختلاف في فهم المراد من النص، وظنية العديد من النصوص الحاملة للأحكام، وهو ينحصر في الفرعيات التي لا يضر الامتثال إليها على أي مذهب فقهي معتبر، فالقاعدة أن «كل مجتهد مصيب»، وقد بُنيت هذه القاعدة على قول رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد»، والخطأ في الاجتهاد غير الغلط، فمعنى الخطأ: عدم توفيق المجتهد في الإتيان بحكم في المسألة الفرعية يتوافق وحكمها الذي هو في علم الله، ولما كان إدراك الحكم الذي في علم الله مستحيلًا بعد انقطاع النبوة كان المجتهد مَعفُوًّا عنه وغير مطالب به، وإنما عليه بذل الوسع واستنفاد الجهد واتباع القواعد، فإن فعل فما توصل إليه من حكم فهو صحيح في حق المكلفين ولذا أُجِرَ عليه، ولو كان خطأ بمعنى الغلط لأَثِمَ ولم يؤجر عليه ولو بأجر واحد، أما مسائل الأصول وهي الثابتة بأدلة قطعية ثبوتًا ودلالة فلا خلاف حولها كأركان الإسلام الخمسة والمحرمات كالردة والقتل والسرقة وغير ذلك. وأوضح أن من أكبر التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية عدم الثقة بالنفس والتهويل من قوة الآخر والافتتان بحضارته، مع أن حضارات الآخرين تعتمد في كثير من مقوماتها على حضارة المسلمين، وحتى اقتصاداتهم التي احتلوا بها الصدارة في عالم المال والاقتصاد مرتبطة ارتباطًا وثيقًا باقتصادات وأموال المسلمين، وهذا الشعور بالضعف والهوان جعل الكثير من دولنا الإسلامية يدور في فلك هذه الدول التي لا تعرف إلا مصالح شعوبها ولا يعنيها معاناة المسلمين ولا تسعى لتخفيفها بل كل أفعالها تشي بسعيها لمزيد من إضعاف أمتنا الإسلامية والعربية ونهب ثرواتها، وهذا الشعور بالضعف هو الذي يذهب قوة المسلمين ويفقدهم هيبتهم في نفوس هؤلاء المتغطرسين، وحقيقة الأمر أننا لسنا أمة ضعيفة بل إننا نملك الكثير من عوامل القوة القاهرة لمن تسوِّل له نفسه النيل من الإسلام والمسلمين اقتصاديًّا أو عسكريًّا، والتاريخ حافل بمشاهد النصر للمسلمين في كافة الميادين حين كان المسلمون يعتزون بإسلامهم ويلتزمون منهجه وضوابطه وقيمه، ولم يبادروا بالانسلاخ من هُويتهم جريًا وراء سراب وبريق خادع لحضارات هشة أشبه ببيوت خَرِبَة أساساتها سطحية غير أنها طُليت بطلاء الحرية والعدالة والديمقراطية. وقال إن الحديث عن خطورة الفكر التكفيري يدعونا إلى الاستفادة مما قدمه العلماء الثقات من أنحاء المعمورة الذين أجمعوا على خطورة الفكر التكفيري وبيَّنوا للناس أن ديننا دين السماحة يأبى تكفير الناس إلا بيقين، وأنه لا مجال لتكفير من نطق بالشهادتين إلا بجحدهما جملة أو إحداهما، أو أنكر ما عُلِمَ من ديننا بالضرورة، كما بينوا أن الحكم بالتكفير إنما هو من اختصاص القضاء، أما العلماء فمجال حديثهم في التكفير يقتصر على التحذير منه، وبيان خطورته، وتوضيح الأمور المكفرة دون إسقاط أحكام الكفر على الناس كما يحلو لكثير من مدعي العلم في زماننا، وأمر هؤلاء يثير الشفقة عليهم في نفوس العلماء العارفين بخطورة التكفير، ويكفي لبيان غفلة هؤلاء المكفِّرِين قول رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المرء لأخيه يا كافر فقد باء بإثمها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رُدت إليه»، ولعلهم سمعوا يوما قول رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - لسيدنا أسامة بن زيد منكرًا قتله لرجل قال لا إله إلا الله حين أدرك أنه مقتول: «فهلّا شققت عن قلبه»، وإنكاره كذلك – صلى الله عليه وسلم - على سيف الله المسلول سيدنا خالد بن الوليد قتله جماعة في معركة بعد أن قالوا: «صبئنا»، وهي مجرد كلمة لا تعني أكثر من الخروج من دين إلى دين آخر، ولذا تَصدُقُ على من خرج من الإسلام إلى الكفر، وعلى من خرج من اليهودية إلى النصرانية، ولا تختص بالدخول في الإسلام أو الخروج منه، ومع ذلك رآها رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كافية وموجبة للتوقف عن قتالهم حتى يعلم حقيقة أمرهم، لاحتمال دخولهم في الإسلام؛ حيث كانوا يقاتَلون عليه، ولذا أنكر رسولنا الكريم على سيدنا خالد وتبرأ من فعله فقال: «اللهم إني لم آمر، ولم أشهد، ولم أرضَ إذ بلغني، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد». فإذا كان مجرد الشبهة كافيًا لعصمة النفس، وإن احتمل وجود الكفر فيها، فما بالنا بأناس يكفرون قومًا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون لمجرد اختلافهم معهم في أمر من أمور الدنيا قد يكون اعتناق نهج سياسي لا يرضي حَمَلَةَ صكوك التكفير والإيمان ممن ابتلينا بهم ممن يحسبهم الناس من علماء الزمان وليسوا كذلك، بل إن العالم الحقيقي لا يحكم بكفر شخص احتمل الكفر من ألف وجه واحتمل الإيمان من وجه واحد، حذرًا من أن يكفِّرَ مؤمنًا فيكفر. وأكد وكيل الأزهر إن هذه التحديات التي ذكرتها وغيرها مما يعوق انطلاقة الأمة الإسلامية واستعادة مجدها وريادتها، لا سبيل لمواجهتها إلا بالتحرك العاجل لتحقيق وحدة قوية بين سائر الدول والشعوب الإسلامية تحقيقًا لقوله تعالى: «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ»، فقد علمنا من كتاب ربنا أننا ينبغي أن نكون أمة واحدة وإن تباعدت أقطارها، قال تعالى: "وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً". وشدد على أنه ليس المقصود من الوحدة المنشودة اليوم أن تصبح دول المسلمين دولة واحدة؛ لأن هذا غير ممكن في زماننا لعدم الاتصال الجغرافي، كما أنه ليس مقصودًا وحدة الحكم والحاكم الذي يحكم جميع المسلمين تحت نظام واحد؛ حيث إن شريعتنا تستوعب أنظمة الحكم الحديثة وإن اختلفت مسمياتها وتعددت، فكل ما يتعارف عليه الناس من أنظمة الحكم التي يرتضيها الناس بينهم لا تأباها شريعتنا السمحة، ولكن المقصود وحدة الهدف الذي يسعى إليه المسلمون، وهو العمل على رفعة الأمة وقوتها واستقرارها وأمنها، ووحدة القرار المتخذ لمجابهة الأزمات التي تتعرض لها الأمة مجتمعة كالتصدي لمحاولات أعدائها لإضعافها، أو تلك الأزمات التي تهدد استقرار وأمن دولة من دول المسلمين، كفلسطين والشيشان وأفغانستانوالعراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها من بلاد المسلمين، وما يتهدد الأقليات المسلمة كما في بورما وأفريقيا الوسطى والعديد من الدول الأوروبية وغيرها، فقد عرفنا من شريعتنا أن «المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضه»، وأن غير المعنيِّ بأمر المسلمين ليس منهم، فلا يشترط لانزعاج دولة مسلمة أن يكون هذا المزعج قد داهم حدودها، ولكن جسد الأمة الإسلامية جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وأوضح د .عباس شومان أن تحقيق حلم وحدة الأمة ليس مستحيلًا وإن كان تحقيقه غير منظور في الأفق القريب، فلسنا بأقل من الأمم الأوروبية التي حققت الوحدة بين دولها على كثرة الخلافات فيما بينهم من تعدد الديانات وتباعدها واختلاف الثقافات وتنوعها أكثر مما بين المسلمين، فإن العديد من دول المسلمين يتحدث بلغة واحدة هي لغة القرآن الكريم، وحتى من يتحدثون بغير العربية يجمعهم كتاب الله وسنة رسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم - ولذا فينبغي ألا يعد اختلاف الألسنة عائقًا يحول دون تحقيق الوحدة المنشودة.