على كثرة المؤرخين والرواة الذين تصدوا لمهمة تسجيل وتوثيق سيرة حياة الجنرال نابليون بونابرت الصاخبة ، فإن الكل تقريبا يكاد يجمع على واقعتين بالتحديد تُنسبان لهذا القائد الفرنسى ذائع الصيت والمثير للجدل فى آن ، والاثنتان لهما علاقة بحملته على مصر .. أولاهما قولته الشهيرة التى أطلقها وهو يشق بسفنه عباب البحر فى الطريق إلى غزو المحروسة: ∩نحن ذاهبون إلى أهم بلد فى الدنيا∪ .. أظن أننا هذه الأيام بالذات فى أمس الحاجة لكى نستحضر هذه العبارة النابليونية التى انحفرت فى جسد التاريخ الإنسانى ، ليس لكى نتباهى ونعيش فى آثار ماضينا التليد وإنما لنغضب من أنفسنا ونقتنع بأن البؤس الشامل الذى نتردى فى أوحاله ليس يليق بنا أبدا ، وأنه حريا بنا أن نتململ وننتفض من رقدتنا التى طالت جدا. أما الواقعة الثانية فهى أن الجنرال نابليون الذى شغل الدنيا بغزواته حمل معه فى الطريق من فرنسا إلى مصر رواية ∩أشجان (أو أحزان) الشاب فرتر∪ التى كتبها المفكر والمبدع الألمانى الكبير يوهان ولفجانج جوته (1749 1832) فى بواكير حياته وظل نادما عليها حتى مات ، لكنها بقيت مع رواية ∩فاوست∪ تحتلان مكانة بارزة ضمن أهم وأشهر أعماله الغزيرة ، وقد رسم جوته سيرته باقتدار وحكى كيف عاش حياته القصيرة حيرانا مكتئبا وغير قادر على التوائم والانسجام مع المجتمع ، ما اضطره فى النهاية إلى الانتحار وأن يضع حدا لمعاناته بيديه. إذن ∩أشجان فرتر∪ برغم بساطة حكايتها (بمعايير الدراما الحالية) وربما بسبب هذه البساطة فقد بدت تحمل بين دفتيها نوعا من التبشير والتأسيس لاهتمامات واتجاهات أدبية تغوص أكثر وأعمق فى مشكلات وإشكاليات بعضها قديم قدم انتظام البشر فى مجتمعات ، لكن أغلبها تفاقم وتعقد وازداد حدة وثقلا مع اجتياح أنماط ونظم الحداثة حياة الناس ، يقف على رأس قائمة هذه المشاكل ما يمكن أن نسمية ∩توعك∪ العلاقة بين الإنسان الفرد والعالم المحيط به ، وما يصاحبها من تعاسة وشعور شبه مزمن بالحزن وعدم الرضا عن النفس. فما هى تلك الرواية البسيطة التى كتبها ∩جوته∪ وهو مازال فى يفاعته العمرية والفكرية والأدبية؟ إنها باختصار مخل ، قصة شاب يدعى ∩فرتر∪ وقد رواها هذا الأخير بنفسه من خلال رسائل وخطابات دبجها لحبيبته ومع ذلك لم يرسلها لها أبدا. تبدأ الحكاية حين يصل الشاب إلى مدينة صغيرة حيث يلتقى بالحسناء شارلوت ، وفورا يقع فى غرامها ويهيم بها من دون أن يعرف أول الأمر أنها مخطوبة للفتى ألبير الذى يتميز بنزاهة مغلفة برزانة وهدوء يلامسان حدود الملل ، ما يجعله فى نظر فرتر لايتمتع بصفات مميزة تؤهله للفوز بحب شارلوت ، ولكنه سرعان ما ينسج علاقة صداقة وطيدة مع غريمه ألبير الذى لايبدى (من فرط طيبته وسذاجته) أى اعتراض على استمرار لقاءات فرتر بشارلوت حتى بعدما صارت هذه الأخيرة زوجته .. وهكذا يزداد توهج وتأجج شعور فرتر بحب زوجة صديقه بينما هو لا يستطيع البوح لأحد بهذا الشعور ، ولا حتى لشارلوت التى يظن أنها تبادله خفقان القلب بالعشق والهوى ، مع أن قراء الرواية يعرفون حقيقة أن الفتاة لا تأبه كثيرا ولا تكترث بهذا الحب الذى ربما كانت تعيشه بدرجة ما بيد أنها لاتكف عن مقاومته ومحاولة طرده من أعماقها ، أو فى أحسن الأحوال تريده أن يبقى مجرد ∩حب سري∪ لاتعترف به ولا تريد فى الوقت نفسه أن يموت كليا فى قلب عاشقها. هذه الحقيقة (الحب من طرف واحد) تتسرب رويدا رويدا وبطريقة مبهمة إلى صدر فرتر فتزداد تعاسته وكآبته ، وفى اللحظة التى يصل فيها إلى ذروة القنوط واليأس فإنه يغتنم آخر فرصة ويغمر محبوبته بأحضان وقبلات حارة على أساس أنه مسافر ، ثم نكتشف نحن وهى ، انه كان يودعها هى والدنيا كلها الوداع الأخير ، إذ فجأة يطلق الرصاص على نفسه من مسدس كانت شارلوت سهلت له اختلاسه من زوجها!! و.. طبعا وأخيرا ، فإنه من قبيل ∩قلة الأدب∪ أن نحمل ∩الأدب∪ بما هو إبداع فى الجمال والإمتاع ، أى دروس أو مواعظ ، ومع ذلك فإن نهاية رواية ∩أحزان فرتر∪ تبدو وكأنها تحرضنا على أن لا نترك وجع حياتنا يتفاقم ويستفحل حتى يجرجرنا إلى الموت والانتحار .