5 دقائق تقريباً، كانت تفصل الرئيس عبدالفتاح السيسي في مقر إقامته بفندق «نيويورك بالاس» الذي يقع في «ماديسون أفينيو»، عن الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي يقيم ككل الرؤساء الأمريكيين منذ عهد الرئيس «هربرت هوفر»، خلال وجودهم في نيويورك، بفندق«والدورف استوريا» الشهير في «بارك أفينيو». لكن كان يفصل بين الرئيسين 15 شهرا من الشكوك وسوء الفهم وتضارب المصالح، منذ قيام ثورة 30 يونيو، وتأييد الجيش لها في 3 يوليو. اسقطت الثورة رهان أوباما علي نظام الإخوان بأسرع مما كان يتصور، وأربك تدخل الجيش لإنقاذ إرادة الشعب دونما تمهيد أو تشاور أو إخطار مسبق، حسابات الرئيس الأمريكي وإدارته، وتحول الارتباك إلي تخبط في رد الفعل وعصبية في اتخاذ القرار علي نحو ما جري وكان..! كانت الأمطار تهطل بغزارة في شوارع «مانهاتن»، حي المال والأعمال الأشهر في العالم، للمرة الأولي منذ وصل الرئيس السيسي إلي نيويورك يوم الأحد الماضي، بينما كان موكب الرئيس يقطع مسافة تقل عن كيلو متر واحد متجها إلي فندق «والدورف أستوريا»، وبدت الأمطار علي نحو ما، بشيرا بذوبان جليد، غطي علاقة تعاون ربطت البلدين، وطغي علي مصالح استراتيجية مشتركة بينهما. جاء اللقاء الأول الذي جمع الرئيسين السيسي وأوباما بعد ظهر أول أمس «بتوقيت نيويورك»، وسط مساع لتحطيم الجليد بين البلدين والرجلين، بدأت بإشارة أمريكية تفيد برغبة أوباما في لقاء السيسي، واستجابة مصرية فورية للاشارة واللفتة، خاصة أنه ليس من المعتاد أن يلتقي رئيس أمريكي بقادة دول يشاركون في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة يحضره سنويا ما يزيد علي مائة من الملوك والرؤساء. وتوجت تلك المساعي بلقاءات يوم الأحد الماضي وأهمها لقاء الرئيس علي الإفطار مع وزيري الخارجية السابقين هنري كيسنجر ومادلين أولبرايت ومستشار الأمن القومي الأسبق برنت سكوكروفت، ثم لقاؤه مع الرئيس الأسبق بيل كلينتون وزوجته هيلاري وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة المحتملة للرئاسة بعد انتهاء الفترة الثانية لأوباما في العام المقبل. في اللقاء الأول.. فتح سكوكروفت ملف العلاقات الباردة، بل المتوترة بين مصر والولاياتالمتحدة وباختصار قال: «هناك حالة من الابتعاد بين البلدين، ليس المهم من السبب فيها، لكن المهم هو تداركها». وأمنت أولبرايت علي كلامه، مؤكدة أن حجم العلاقة والتعاون الاستراتيجي بين البلدين في الشرق الأوسط، تتحطم أمامه أي خلافات. بينما كيسنجر، صاحب النبوءة بأن الإدارة الأمريكية التي أعطت ظهرها لمصر علي حد قول الرئيس السيسي سوف تأتي لتطالبه بأن يقف بجانبها، كان أكثر حسما ووضوحا في حديثه للرئيس السيسي، وقال: إن الثورة في مصر شأن داخلي، ولا يصح أن توجد حالة قطيعة أو غياب في العلاقات المصرية الأمريكية. وأضاف كيسنجر قائلا: لابد أن يستمر الاتصال المباشر بين القيادة المصرية والإدارة الأمريكية دون انقطاع. وانني احملهم وأحملكم مسئولية الحفاظ علي استمرار هذه العلاقة الاستراتيجية، فلا أحد يستطيع أن يقوم بالدور المحوري الذي تباشره مصر في المنطقة. أما في اللقاء الثاني.. فقد تحلي الرئيس الأسبق كلينتون بالصمت معظم الوقت، وكان يتابع باهتمام حديث السيسي، ويتفرس في ملامحه، وكأنه يرسم في رأسه شخصية الرجل وسماته، لينقل انطباعه إلي ساكن البيت الأبيض الذي ينتمي مثله إلي الحزب الديمقراطي. بينما لجأت هيلاري كلينتون إلي الدفاع عن موقفها من نظام الإخوان. وقالت: «منذ اللحظة الأولي كنت أتحسب منه، ولم أجد تفاهما ولا بعد نظر ولا رؤية، إنما وجدت إصرارا علي أشياء وأخطاء لا يحيدون عنها». وأضافت كلينتون: لقد نصحته أنا، ونصحته أنت. ولم يستجب لي ولا لك».. ثم ضحكت وهي تشير إلي الرئيس، وتقول: «وهذه هي النتيجة»! في قاعة الاجتماع بفندق «والدورف أستوريا»، جلس الرئيسان وأعضاء الوفدين متواجهين إلي طاولة مستطيلة، كان مقررا في الترتيبات المسبقة أن يستغرق اجتماع القمة 60 دقيقة، لكنه طال وامتد إلي 100 دقيقة كاملة. بدا الرئيس الأمريكي جاهزا ومتأهبا بمعلومات وأفكار تلقاها من أساطين السياسة الأمريكية الذين التقاهم السيسي قبل قمة الخميس بأربعة أيام. وبدا الرئيس السيسي مسلحا بتأييد شعبي أجلسه جلوسا علي كرسي الرئاسة المصرية، وثقة جماهيرية تجلت في إقبال المواطنين علي شراء شهادات استثمار في قناة السويس بمبلغ يقترب من عشرة مليارات دولار في غضون 8 أيام لا غير، ومعززا أيضا بحضور بارز في الأممالمتحدة، وكلمة لافتة للانتباه أمام اجتماعات الجمعية العامة، ولقاءات واسعة عديدة مع قادة مؤثرين لدول تنتمي لكل قارات العالم الست، ومحاطا بمظاهر حب جارفة من الوفود المصرية التي أتت طواعية لتكون بجانب الرئيس ومن الجالية المصرية في الولاياتالمتحدة وكندا، والتي ظلت تتعقب الرئيس في مجمع الأممالمتحدة وأمام مقر إقامته، وهي تحمل الأعلام وصور الرئيس وتردد الهتافات والأناشيد الوطنية. أمام عدسات المصورين.. ألقي أوباما كلمة الترحيب المكتوبة، التي رحب فيها بالرئيس السيسي في نيويورك، معبرا عن تطلعه لاغتنام فرصة اللقاء في تبادل الأفكار. وقال إن العلاقات المصرية الأمريكية هي حجر زاوية مهم للسياسة الأمنية للولايات المتحدة وسياستها في الشرق الأوسط منذ زمن طويل جدا. وأضاف أن هذه هي الفرصة الأولي ليلتقي الرئيس السيسي وجها لوجه، لمناقشة عديد من القضايا، من الموقف في غزة، إلي ليبيا، إلي قضايا «داعش»، والعراق وسوريا، مشيرا إلي أنه يتوقع أن تكون المحادثات بناءة ومثمرة. ثم انصرف المصورون، بعد الافتتاح البروتوكولي للاجتماع.. وبدأت أعمال القمة. نظر الرئيس أوباما إلي الرئيس السيسي، وقال له: «إنني أعرف أنك تتمتع بحب الرأي العام في مصر وتحظي بشعبية طاغية». وكان أوباما علي ما يبدو، يريد أن يغلق بهذه العبارة، ملف ما جري في 30 يونيو و3 يوليو 2013، والموقف الأمريكي المتخاذل والمتردد في التعامل مع ثورة يونيو. ورد السيسي قائلا: إننا في القوات المسلحة تعاملنا مع الرئيس السابق علي أساس أن الشعب قد انتخبه، لكنهم «مرسي والإخوان» لم يدركوا هذه الفرصة، ولم يكونوا علي قدر المسئولية، فثار عليهم الشعب. سري الدفء أكثر في أجواء القمة وقال أوباما: «إن مصر دولة محورية مهمة، ولنا علاقة استراتيجية معها لابد أن تستمر، فهي أكبر دولة عربية، وعندها القدرة علي التأثير في الآخرين. وعبر أوباما عن تقديره لدور مصر في وقف إطلاق النار بغزة. ثم تحدث الرئيس السيسي شارحا رؤيته للأوضاع الجارية في اليمن والعراق وسوريا وليبيا، وتطرق إلي قضية الإرهاب كظاهرة عالمية، وسبل دعم التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش»، وطرح السيسي أهمية التعامل مع قضية الإرهاب من منظور شامل يضمن اجتثاثه من جذوره. وحذر من المخاطر الناجمة عن الأوضاع غير المستقرة في ليبيا وأهمية مواجهة التنظيمات الإرهابية هناك، ودعم المؤسسات الشرعية المنتخبة والحكومة التي أقرها مجلس النواب، وشدد علي رفض التدخلات الخارجية وتمويل العناصر الإرهابية، داعيا إلي إجراء حوار سياسي بين جميع الأطياف الليبية التي تنبذ العنف والإرهاب، في إطار المبادرة التي توافقت عليها دول الجوار الجغرافي لليبيا. وعقب الرئيس أوباما، مؤكدا اتفاقه مع رؤية الرئيس السيسي، مشيرا إلي حدوث أخطاء في الماضي أدت إلي هذه الأوضاع. وأكد التزام الولاياتالمتحدة بمنع وصول التمويل والسلاح للميليشيات في ليبيا، وتعزيز التعاون مع مصر في مجال العمليات العسكرية ومكافحة الإرهاب. وقال: إنه طلب تبكير موعد تسليم مصر طائرات الهيلوكوبتر العشر من طراز اباتشي وأضاف أوباما انه حريص علي استمرار التنسيق والتشاور مع مصر بشأن هذه القضايا وغيرها. واتفق مع السيسي علي إعادة اطلاق الحوار الاستراتيجي بين مصر والولاياتالمتحدة علي مستوي وزيري الخارجية، وتحديد موعد قريب لاجراء هذا الحوار. وعندما شرح السيسي برنامج مصر للتنمية الاقتصادية، قال أوباما إننا ندعم الإصلاحات الاقتصادية التي تقوم بها ولدينا الرغبة في مساندة مصر. ثم تطرق أوباما إلي موضوع السجناء من الصحفيين المتهمين في «خلية ماريوت»، وبدا انه علي دراية بتصريحات السيسي الأخيرة التي قال فيها إنه لو كان رئيسا وقت القبض عليهم وقبل محاكمتهم، لأمر بترحيلهم. وعندما رد السيسي بأن القضاء مستقل، قال أوباما انني أعرف أن القضاء مستقل وأنه لا يمكن الضغط علي الأحكام القضائية. لكنه تمني أن يحل هذا الموضوع قضائيا. وشدد السيسي علي اهتمامه باحترام حقوق الإنسان، وقال إن حقوق الإنسان ليست فقط حرية الرأي والتعبير، وهي مكفولة وإنما نحن ننظر إليها من منظور أوسع يشمل أيضا حق الإنسان في التعليم والمأكل والمسكن والعلاج. ومضت المباحثات علي مدار ساعة وأربعين دقيقة في أجواء ودية للغاية، سادها اتفاق في وجهات النظر تجاه مختلف القضايا الإقليمية والموضوعات الخاصة بالعلاقات الثنائية والتعاون الاستراتيجي بين البلدين. وفي ختام القمة.. وجه الرئيس السيسي الدعوة إلي الرئيس أوباما لزيارة مصر والمشاركة في قمة مصر الاقتصادية المقرر عقدها في شهر فبراير المقبل. وقال أوباما انه سيدرس جدول ارتباطاته اثناء هذه الفترة، وانه سيسعي لحضور هذه القمة وزيارة مصر. وبعد انتهاء اللقاء.. اصطحب الرئيس أوباما الرئيس السيسي خارج القاعة، واصطحبه إلي مصعد الفندق حيث ودعه بحرارة شديدة. قبيل إقلاع الطائرة الرئاسية من مطار جون كنيدي في طريق عودتها بالرئيس السيسي والوفد الرئاسي إلي القاهرة.. سألت مسئولا مصريا رفيع المستوي عن تقييمه لأول قمة تجمع الرئيسين السيسي وأوباما.. أجاب قائلا: «الثلوج ذابت.. والكيمياء اشتغلت».