ظل ثعلب السياسة الخارجية الأمريكية الأشهر هنرى كيسنجر ينصت إلى الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى، وهو يتحدث عن الوضع الداخلى فى مصر، ويشرح رؤيته للموقف فى المنطقة العربية، ويعرض لقضية الإرهاب وتداعياتها المحتملة. ثم نظر إلى الرئيس بعمق، وقال له بنبرته الهادئة، وبلغة مازالت تشوبها لكنة ألمانية من تأثير نشأة الطفولة: سيدى الرئيس.. لقد سمعتك من قبل تقول للإدارة الأمريكية، «لا تديرى لنا ظهرك»، وأنا أقول لك إنهم سوف يأتون لكم، ويقولون: قفوا بجانبنا! كان كيسنجر بهذه العبارة المكثفة، يمهد لتحول أمريكى متوقع فى مسار علاقاتها مع مصر التى أخذت منحى التوتر منذ ثورة 30 يونيو تحديداً، ولخص بنفس التكثيف أسبابه فى التنبؤ بهذا التحول، قائلا: إن مصر هى الدولة المحورية فى الشرق الأوسط، وهى المفتاح لحل أزمات المنطقة. حديث كيسنجر مع السيسى جرى على مائدة إفطار فى مقر إقامة الرئيس بفندق «نيويورك بالاس» أمس الأول، ضمت أيضا اثنين من دهاقنة السياسة الأمريكية هما برنت سكوكروفت مستشار الأمن القومى فى إدارة بوش الأب، ومادلين أولبرايت وزيرة الخارجية فى عهد كلينتون. وقبل نهاية الحوار الذى استفاض فيه الرئيس فى طرح تقديره للموقف فى العراقوسوريا وليبيا وأيضا بالنسبة للقضية الفلسطينية.. قال كيسنجر: «سيدى الرئيس.. دعنى أقول لك بوضوح.. إننى اتفق معك فى الموقف وفى التحليل». لم يكن إفطار الثامنة صباحاً هو الإطلالة الوحيدة من جانب السيسى، على الخبراء وصناع القرار الأمريكى فى ثانى أيام زيارته لنيويورك، ولا من جانب رموز النخبة السياسية والاقتصادية والفكرية الأمريكية على الرئيس المصرى الجديد الذى كان يبدو لبعضهم لغزاً مستغلقا يفتشون عن مفاتيحه. بدا اليوم فى مجمله إشارة على نقطة تحول مقبلة لتصحيح مفاهيم اختلطت، وإصلاح علاقات ساءت، وتصويب مسار تلك العلاقات إلى اتجاه تحقيق مصلحة استراتيجية مشتركة، لا تحول دونها اختلافات فى رؤى، ولا تقوضها خلافات حول قضايا. وعلى ضوء نتائج لقاءات يوم الاثنين فى نيويورك.. تزايدت التوقعات بنجاح لقاء القمة الأول والمؤجل بين الرئيسين السيسى وأوباما، والمقرر أن يتم غدا «الخميس» فى مقر إقامة الرئيس الأمريكى بفندق «والدورف أستوريا» فى نيويورك، وإمكان أن يسفر عن نتائج طيبة تبدد سحابات الشكوك التى خيمت على أجواء العلاقات بين البلدين وباعدت بينهما طيلة 15 شهرا مضت. ولعل ما أشعر المصريين المتابعين لزيارة السيسى إلى نيويورك بالارتياح، أن المبادرة لترتيب هذا اللقاء جاءت من البيت الأبيض، وأن المسعى بدأ من أوباما، الذى أرسلت إدارته إلى كل الوفود المشاركة فى الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، مذكرة تفيد بأن الرئيس الأمريكى لن يستطيع تلبية طلبات أى من قادة الدول المشاركين فى القمة الدولية للقائه على هامشها، وأنه سيكتفى بالالتقاء معهم جميعا خلال حفل الاستقبال الذى سيقيمه للقادة والزعماء. وخلال اليومين الماضيين، جرت اتصالات ولقاءات مكثفة بين رجال «الاتحادية» ورجال البيت الأبيض للترتيب للقاء الرئيسين، واتفق على أن يلقى الرئيسان بيانين على الصحفيين فى ختام أعمال القمة عن النتائج التى توصلت إليها. فى أعقاب لقاء الإفطار مع كيسنجر وسكوكروفت وأولبرايت، اجتمع السيسى مع أربعة من أعضاء الكونجرس هم: السيناتور رون جونسول والنواب: إليوت أنجل وبيتر كينج وجيم هايمز. ثم كان اللقاء الأكثر إثارة للاهتمام للرئيس السيسى فى هذا اليوم مع الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون وزوجته وزيرة الخارجية السابقة هيلارى كلينتون، وعلى مدى 75 دقيقة، دار الحوار بين السيسى والزوجين كلينتون، واستحوذت هيلارى على الجانب الأكبر من الحديث، وهى تعرض رؤيتها للأوضاع فى مصر بعد ثورة 25 يناير، من واقع تجربتها فى موقعها السابق، وأبدى بيل وهيلارى كلينتون اقتناعهما بتحليل الرئيس للأوضاع فى منطقة الشرق الأوسط، وشدد بيل كلينتون على أهمية التعاون فى محاربة الإرهاب الذى يشكل خطراً على العالم وليس منطقة الشرق الأوسط وحدها. أما اللقاء السياسى الأبرز فى هذا اليوم، فكان هو الحوار الموسع الذى جمع الرئيس السيسى بنخبة من السياسيين والعسكريين السابقين والمفكرين وخبراء مراكز البحوث الأمريكية التى تعد أهم دوائر صنع القرار للإدارات المتعاقبة. وكان فى صدارة الحضور دينيس روس مساعد وزير الخارجية الأمريكى الأسبق وستيفن هادلى مستشار الرئيس بوش الابن وساندى بيرجر مستشار كلينتون للأمن القومى وريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية وروبرت ساتلوف مدير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، والجنرال مولين رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق والجنرال جون أبى زيد قائد القيادة المركزية الأسبق وريتشار دونى سفير الولاياتالمتحدة الأسبق فى مصر والكاتب المعروف توماس فريدمان المهتم بقضايا الشرق الأوسط. أثناء اللقاء.. قال أحد هذه الشخصيات للرئيس: «إننى كنت فى زيارة لمصر، ولقد لاحظت أن مشاعر المصريين تجاه الولاياتالمتحدة ليست بالودية.. ما هو تفسيرك لهذا؟! رد الرئيس بهدوء: لأنهم يشعرون بالخذلان! وشرح الرئيس ما قوبلت به ثورة المصريين فى 30 يونيو من إنكار لدى الإدارة الأمريكية، وما تعرضت له مصر من تضييق فيما بدا للشعب أنه عقاب له على ممارسته حقه فى تحديد مصيره والاختيار الحر بملء إرادته. ناقش السيسى مع الخبراء الحاضرين قضايا المنطقة وعرض الموقف الداخلى وبرنامجه لتنمية مصر، واستمع إلى رؤاهم التى تمحورت فى معظمها على الإرهاب والخطر الذى يمثله تنظيم داعش. وعقب الرئيس موضحاً نشأة هذا التنظيم وأسباب تمدده، وأشار إلى أنه لا يمثل خطراً حالا الآن على مصر، وقال إن الخطورة على الغرب تكمن فى المقاتلين الأجانب الذين انخرطوا فى صفوف التنظيم، وسوف يحين فى وقت ما أوان عودتهم إلى بلادهم، وأوضح الرئيس أن داعش والقاعدة وأنصار بيت المقدس وبوكوحرام هى جماعات لها أيديولوجية واحدة وتنتمى إلى منشأ واحد، ونبه مجدداً إلى ضرورة التعاون الدولى فى مكافحة الإرهاب، مذكراً بأنه سبق أن حذر من استفحال هذا الخطر منذ أكثر من عام، ولكن لم ينتبه الكثيرون، وركز الرئيس على أن الأمن ليس هو الأداة الوحيدة لمكافحة الإرهاب، مشيراً إلى أهمية التنمية الاقتصادية والتعليم والتوعية الدينية. وفى أعقاب هذا اللقاء.. انتحى بعض هذه الشخصيات بدبلوماسى مصرى يرتبطون معه بعلاقات مودة وصداقة جانبا، وقالوا له: «هذا الرجل يعرف ما يقول، ويبدو مختلفاً كثيراً عما كنا نعتقد وعما كان يصوره لنا الإعلام هنا». بقدر اهتمام الرئيس السيسى بالجانب السياسى فى لقاءاته مع الشخصيات الأمريكية فى نيويورك، كان اهتمامه بالجانب الاقتصادى وجذب الاستثمارات إلى مصر وعرض خريطة التنمية فى البلاد، ولعل أنجح هذه اللقاءات، هو اجتماعه مع 21 من رؤساء مجالس إدارات أكبر الشركات الأمريكية التى لها استثمارات فى مصر، مثل كوكا كولا، بيبسى كولا، كارجل، بلومبرج، وكذلك رئيس بورصة شيكاغو السلعية التى تبلغ تعاملاتها فى السنة «كوادر يليون دولار» أى ألف تريليون دولار. ثم اجتماعه مع 15 من كبار الخبراء والمستثمرين الأمريكيين الذين لم يدخلوا باستثماراتهم إلى مصر بعد، وجاء الاجتماع فى إطار مجلس الأعمال للتفاهم الدولى وجرى على غداء عمل. فى اللقاءين تحدث الرئيس السيسى عن توجه مصر الاقتصادى، مؤكدا أنه اقتصاد السوق الحرة، وقال إننا نريد أن نرفع من مستوى معيشة شعبنا وأن نقضى على الفقر. وأضاف: إننا نعترف بأن مصر عندها مشاكل، لكن هذه المشاكل يجب النظر لها استثمارياً نظرة مختلفة، فالبطالة تعنى وجود عمالة قليلة التكلفة، والتكدس يعنى وجود أرض غير مستغلة، وعدم توفر التمويل يعنى وجود عائد مرتفع على الاستثمار. وأكد الرئيس أن الحكومة المصرية تشجع القطاع الخاص على الاستثمار، وأنه مستعد شخصيا لتذليل أى عقبة لأى مستثمر أجنبى جاد. وفى كل لقاء منهما، كان الرئيس يترك الفرصة لوزير الاستثمار د. أشرف سلمان ووزير التموين د. خالد حنفى للحديث وشرح التفاصيل كل فى اختصاصه. ولاحظ الحاضرون أن الرئيس يقدم الوزيرين بوصف الزميلين، وهو وصف لم تعتد آذان هؤلاء المستثمرين سماعه من قادة دول عن معاونيهم خاصة فى دول العالم الثالث. تحدث د. أشرف سلمان عن مناخ الاستثمار، وقال إنه سيتم تعديل القانون لإصدار قانون الاستثمار الموحد الذى سيتضمن حوافز جديدة، وأكد على أن الحكومة ستلتزم بتعاقداتها، وعرض خريطة المشروعات التنموية الجديدة فى مصر والمجالات الرحبة للاستثمار بها. كما تحدث د. خالد حنفى وعرض 3 مشروعات محددة، أولها: إنشاء محطة غلال بميناء دمياط مزودة بمنظومة نقل، لتكون نواة لمحطات أخرى تحول مصر إلى سلة غلال للمنطقة، وثانيها: إنشاء بورصة سلعية فى مصر لتداول التجارة فى الحبوب لخدمة المنطقة العربية وأفريقيا، وثالثها: إنشاء أكبر مدينة للتجارة والتسوق على مساحة ألف فدان وبتكلفة مبدئية 40 مليار جنيه، ومن المقرر إقامتها شمال خليج السويس قرب مشروع القناة الجديد، لتوفير 500 ألف فرصة عمل للشباب المدربين والمؤهلين. وفى أعقاب اللقاءين، قرر رئيس بورصة شيكاغو السلعية زيارة مصر يوم 15 أكتوبر لمناقشة التعاون مع البورصة المصرية الجديدة لتكون مركزاً إقليميا لها، كما أبدى عدد من رجال الأعمال رغبات فورية فى استثمار 5 مليارات دولار فى مشروعات محددة بمصر، وقوبل مشروع مدينة التسوق الكبرى باهتمام كبير من جانب عدد من رجال الأعمال ورؤساء الشركات الأمريكية الذين أبدوا رغبتهم فى دراسة تفاصيله. قبيل لقاء الغد بين السيسى وأوباما، سيكون أمام الرئيس الأمريكى رؤية واضحة ومتكاملة للموقف المصرى، نقلها كيرى وزير الخارجية عقب مباحثاته بالقاهرة مع الرئيس، واستوفاها الرئيس الأسبق بيل كلينتون الذى استمع إلى عتاب الرئيس ووجهات نظره، وأبدى تفهمه لها، وقال إنه سينقلها إلى الرئيس أوباما. وتبقى نبوءة كيسنجر أكثر قابلية للتحقق فى قمة الغد، فالذين أداروا ظهرهم لمصر، سيطلبون منها أن تقف بجانبهم من العراق إلى سوريا إلى ليبيا لمجابهة إرهاب أعلنوا أنهم انتصروا عليه، ثم اكتشفوا أن النصر بعيد، والحرب لا مفر منها، والخطر قد يدق بابهم من جديد!