صفارات الإنذار تدوي في عدة مناطق بالجليل الأعلى شمال إسرائيل    موعد مباراة ضمك والفيحاء في الدوري السعودي    عاجل - حالة الطقس اليوم.. الأرصاد تعلن تفاصيل درجات الحرارة في محافظة أسيوط والصغرى تصل ل22 درجة    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    استشهاد 4 فلسطينين وإصابة آخرين في هجوم على مخيم للنازحين بغزة    بسبب زيادة حوادث الطرق.. الأبرياء يدفعون ثمن جرائم جنون السرعة    كندا تفرض عقوبات على مستوطنين إسرائيليين بسبب انتهاكات    سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية الجمعة 17 مايو 2024    النمسا تتوعد بمكافحة الفساد ومنع إساءة استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    بركات: الأهلي أفضل فنيا من الترجي.. والخطيب أسطورة    وقوع زلازل عنيفة بدءا من اليوم: تستمر حتى 23 مايو    الاستخبارات العسكرية الروسية: الناتو قدم لأوكرانيا 800 دبابة وأكثر من 30 ألف مسيرة    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    لبلبة: عادل إمام أحلى إنسان في حياتي (فيديو)    كيفية معالجة الشجار بين الاطفال بحكمة    أضرار السكريات،على الأطفال    بعد قفزة مفاجئة.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالصاغة    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    الذكاء الاصطناعى.. ثورة تكنولوجية في أيدى المجرمين الجدد    من أجل بطاقة السوبر.. ماذا يحتاج برشلونة لضمان وصافة الدوري الإسباني؟    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    «مش هيقدر يعمل أكتر من كدة».. كيف علّقت إلهام شاهين على اعتزال عادل إمام ؟    يوسف زيدان يفجر مفاجأة بشأن "تكوين": هناك خلافات بين الأعضاء    شبانة يهاجم اتحاد الكرة: «بيستغفلنا وعايز يدي الدوري ل بيراميدز»    يوسف زيدان يهاجم داعية يروج لزواج القاصرات باسم الدين: «عايزنها ظلمة»    تحرك جديد.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    سيد عبد الحفيظ ل أحمد سليمان: عايزين زيزو وفتوح في الأهلي (فيديو)    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    فصائل عراقية تعلن استهدف موقع إسرائيلي حيوي في إيلات بواسطة الطيران المسير    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    بعد اختفائه 12 يومًا.. العثور على جثة الطفل أدهم في بالوعة صرف بالإسكندرية    محافظ جنوب سيناء ووزيرة البيئة يوقعان بروتوكول أعمال تطوير مدخل منطقة أبو جالوم بنويبع    محافظ الغربية: تقديم الخدمات الطبية اللائقة للمرضى في مستشفيات المحافظة    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    ماذا قالت نهاد أبو القمصان عن واقعة فتاة التجمع وسائق أوبر ؟    قوات الإنقاذ تنتشل جثة مواطن سقط في مياه البحر بالإسكندرية    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    الدراسة بجامعة القاهرة والشهادة من هامبورج.. تفاصيل ماجستير القانون والاقتصاد بالمنطقة العربية    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    المظهر العصري والأناقة.. هل جرَّبت سيارة hyundai elantra 2024 1.6L Smart Plus؟    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    كلمت طليقى من وراء زوجي.. هل علي ذنب؟ أمين الفتوى يجيب    براميل متفجرة.. صحفية فلسطينية تكشف جرائم إسرائيل في غزة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الجمعة 17 مايو 2024    الوادى الجديد: استمرار رفع درجة الاستعداد جراء عواصف ترابية شديدة    بعد عرضه في «كان» السينمائي.. ردود فعل متباينة لفيلم «Megalopolis»    كاميرا ممتازة وتصميم جذاب.. Oppo Find X7 Ultra    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    لا عملتها ولا بحبها ولن نقترب من الفكر الديني.. يوسف زيدان يكشف سر رفضه «مناظرة بحيري ورشدي»    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب محفوظ.. رفقة عمر

في دروس شيكاجو، حرصت علي التعبير عن رؤيتي من خلال الخاص والعام، الدرس الثاني كان عن نجيب محفوظ، شهادة عن صديق قريب وكاتب عظيم تأثرت به..
مازلت أذكر هذا اليوم البعيد، ربما كان في عام 1960 أو عام 1961، لا أدري موقعه بالضبط بين الايام، لكنه بالتأكيد يوم جمعة، كنت أقف في شارع عبدالخالق ثروت، في مواجهة المدخل الجانبي للأوبرا التي احترقت، كنت أنتظر أحد الأصدقاء، عندما وقعت عيناي علي نجيب محفوظ لأول مرة، كان قادما من ناحية ميدان العتبة، متجها إلي ندوة الاوبرا الاسبوعية، كيف تعرفت عليه، ربما صوره التي علقت بذهني، تلك الصور التي كانت تنشرها الصحف والمجلات، لم أكن أعرفه، غير أن راحة غمرتني، فهذا عظيم ممن قرأت لهم. الروائي العربي الوحيد الذي تعلقت بأعماله، تلك الاعمال التي كانت تحمل عناوين المنطقة التي أحيا فيها، القاهرة القديمة، والذي وجدت قامته تطاول قامة الروائيين الكبار الذين قرأت أعمالهم في هذا العمر البعيد: تولستوي، دستويفسكي، توماس مان، وغيرهم. دعاني الي ندوة الاوبرا الاسبوعية والتي أنتهت عام 1961 بسبب الأمن .
مضي عام، وكان مقر عملي الجديد في الدقي، كنت أمشي من الجمالية في الصباح الباكر إلي الحي الأنيق، وأعبر كوبري قصر النيل، وفوق الكوبري التقيت بنجيب محفوظ أذكر أن خطواته كانت أسرع، وكان بنيان جسده في ضعف جسده الحالي، وشعره أسود تماما، كان في الحادية والخمسين، وكان يعمل مستشارا ثقافيا لمؤسسة السينما، مقر مكتبه في مبني التليفزيون، يمشي يوميا من منزله إلي المبني، فوق الرصيف ذاته، يعبر من نفس المكان، وكالعادة يحمل في يده اليمني صحف الصباح، تعرفت به، وبدأت أصحبه مسافة قليلة من الطريق قبل ان أنثني معاودا سيري في الاتجاه المعاكس، في أحد هذه الاصباح النائية، أعطيته نسخة من مجلة »الأديب»‬ البيروتية التي كان يصدرها الراحل الكبير البير أديب، حيث نشرت أول قصة لي ، قصة عنوانها »‬زيارة» كان ذلك في عدد يوليو 1963.
في اليوم التالي قال لي إنه قرأ القصة، وأنها جيدة ، وأنه أعجب بها، وبدا علي وجهه ذلك التعبير الذي خبرته جيدا فيما بعد كلما أعجبته قصة أو رواية قرأها، لاحظت اهتمامه بكل انتاج أدبي جديد يصل إليه من أي أديب ناشئ أو مجهول، يقرأه بعناية، ويبدي رأيه شفاهة إذا كان الأديب يلتقي به، أو كتابة إذا كان يقيم بعيدا عنه، أيضا لا يهمل كتابة رد علي أي رسالة تصل إليه، برغم تعدد هذه الرسائل، سواء كانت قادمة من باحث في أدبه بإحدي الجامعات الاوروبية أو أديب مجهول يعيش في قرية نائية، وهذا ما لم أستطع أن أتعلمه منه للأسف، فلكم أضيق بكتابة الرسائل، فلا أخط خطابا إلا إذا كان الباعث دفقة شعورية، أو رغبة حادة في التواصل، تعلمت منه أن الأدب مجاهدة، وأنه يقتضي الدأب الشديد، والمثابرة، وأنه ليس وسيلة للنجومية، أو للظهور في أبواب أخبار المجتمع بالصحف، أو برامج التليفزيون، لقد كتب أشهر أعماله وهو في الظل، تعلمت منه أيضا هذا التنظيم الحديدي للوقت، أدرك أن العمر ضيق، أن العمر قصير والعلم كثير، وما أريد البوح به أدبا أكثر، وأن السنوات تمضي مسرعة، والأدب ليس نزوة ، وأنه في حاجة إلي جهد كبير، هائل، إلي المعايشة العميقة لحياة الناس، إلي التحصيل المستمر.
قال لي نجيب محفوظ :
»‬نعم أنا منظم، والسبب في ذلك بسيط، إذ عشت عمري كموظف، وأديب، ولو لم أكن موظفا لما كنت اتخذت النظام بعين الاعتبار، كنت فعلت ما أشاء وفي أي ساعة أشاء، لكنني في هذه الحالة، كان علي أن أستيقظ في ساعة معينة، وأكون في الوظيفة في ساعة معينة، ويبقي لي من اليوم ساعات معينة، فإن لم أنظم هذا اليوم فسأفقد السيطرة عليه، لقد عودت نفسي علي ساعات معينة للكتابة، وفي البداية كانت روحي تستجيب أحيانا، لكنني مع الزمن اعتدت ذلك، انني اكتب عادة عند الغروب، ولا أذكر أنني كتبت أكثر من ثلاث ساعات، وفي المتوسط لمدة ساعتين، أشرب في اليوم الواحد خمسة فناجين قهوة وأسهر حتي الثانية عشرة ليلا، واكتفي بخمس ساعات نوم».
عندما يكتب نجيب محفوظ يدير ظهره للعالم، لا يعبأ بشيء، ربما يبدو في حياته الخاصة واليومية محافظا، متزنا، لكنه عندما يبدأ إبداعه ينطلق بلا تردد بلا خوف، بلا أدني هاجس، أو حذر، هكذا بدا في قصصه القصيرة خلال الستينيات التي كانت تبدو كأحد مظاهر المقاومة لمصادرة الحريات، كذا في »‬ثرثرة فوق النيل»، و»‬ميرامار» و »‬اللص والكلاب»، في هذه الاعمال حذر من السلبيات الكامنة في المجتمع والتي أدت فيما بعد إلي هزيمة يونيو.
قال نجيب محفوظ :
»‬الثورة عند الأديب تبدأ في قلبه أولا، وفي تفاعله مع الناس ثانيا، تبدأ في إحساسه التنبؤ الطبيعي الذي لا أعتقد أن فنانا يستحق هذا الاسم خال منه، لان الفنان الأصيل كالحيوان، كالعصافير والفيلة والنسور التي عندما تحس بخطر محدق تصدر بالغريزة أصواتا خاصة معلنة للملأ أن خطرا ما آت، والفنان إذا لم يكن عنده هذا القدر من الاحساس العام الذي يجعله ويجعل أدبه في مستوي النبوءة متضمنا دعوة إلي هذا الاتجاه أو ذلك، تكون أجهزته كلها معطلة أو مختلة، إن الفنان في الواقع لا يتنبأ، وإنما يحس الرؤيا، رؤيا الواقع.
وقال نجيب محفوظ :
»‬أحيانا يجد الفنان صعوبة في التعبير عن نفسه، خاصة لموقف الدولة منه، وهذا وضع عام في العالم العربي، أننا لا نستطيع أن نفصل عمل الأديب عن الدولة إطلاقا، وصوت الأديب صوت لابد أن يهز الدولة بالرضي أو السخط، وبالنسبة إلي موقفها من حرية الرأي تكون معاناته، وإذا تجاهلت الدولة صوت الأديب، فإن الدولة تكون هي الخاسرة، لأن صوت الأديب صوت كاشف عن الحقيقة، وإذا كانت الدولة تريد أن تعرف واقعها وتعرف مستقبلها فالأديب يعرف ويعطي مالا تستطيع أن تعرفه أو تعطيه جميع أجهزة المخابرات، بينما إذا كتمت الدولة هذا الصوت فلن يعود عليها إلا بالخسارة، وهي هنا كالذي يضع عصابة علي عينيه برضاه كي لا يري أنه حر، لكنه هو الخسران أولا وأخيرا، حرية الرأي شيء ضروري جدا للأديب، وللأديب وللصديق وللعدو، للعاقل، وللحكيم، ولا يخشي من هذه الحرية إلا واحد فقط هو غير الحكيم.
وأسأل نجيب محفوظ :
»‬أحيانا أجد تناقضا بين بعض ما تقوله في أحاديثك وبين ما أقرأه في انتاجك الفني».
أجابني باختصار :
»‬صدق إذن العمل الفني».
المكان.....
لم أر إنسانا ارتبط بمكان نشأته الأولي مثل نجيب محفوظ، عاش في الجمالية اثني عشر عاما، هي الأعوام الأولي من عمره، ثم انتقل إلي العباسية، لكنه ظل مشدودا إلي الحواري والأزقة والأقبية.. إلي الحسين إلي الجمالية، إن الناس الذين عرفهم وعرفوه، ثم كان المكان محورا لأهم وأعظم أعماله الأدبية، ومع بداية الصيف يتوقف نجيب محفوظ عن الكتابة طوال العطلة وحتي بداية الخريف، وذلك بسبب مرض عينيه بالحساسية وفي الأسبوع الأول لعطلته، ذهب إلي الحسين، إلي الجمالية وكنت معه، لقد صحبته كثيرا إلي الحسين، وهناك راقبت انفعالاته، وتجولت معه في الحواري والشوارع التي عشت فيها ثلاثين عاما.
البداية من ميدان الحسين.. في قلب الميدان توقفنا للحظات، بدا وجه نجيب محفوظ هادئا، مستكينا لتأثير الذكريات التي كانت تتوالي عليه، تطلع إلي مبني إدارة جامع الازهر، قال :
هنا كانت مدرسة خليل أغا الثانوية..
قلت له : إن معالم الميدان تغيرت عدة مرات خلال السنوات القريبة، منذ أن أقدم أحد المحافظين علي استصدار قرار بهدم الفيشاوي ومجموعة المباني القديمة التي كانت تجاوره، في وسط الميدان كانت ساعة ميدان، ثم أقيمت نافورة، عدلت، ثم أحيطت بحديقة، وفي نفس هذا المكان منذ حوالي ثلاثين عاما، كان موقف عربات سوارس التي تجرها الخيول، وتتجه إلي الدرب الأحمر، إلي الحسينية.
أشار نجيب محفوظ إلي عمارات الأوقاف القائمة في الجهة الغربية من المسجد، قال :
كان هنا الباب الأخضر، فهو قبو كبير يؤدي إلي حارة ضيقة وكانت حياته، محورها الجمالية، والحسين، وهذه المنطقة، وعلي الرغم من سكنه في مناطق أخري من القاهرة، العباسية، وشارع النيل، إلا أنه لم يعكس هذه المناطق بنفس القوة التي صور بها الجمالية، وما تزال الحارة محور عالمه.
مرة واقعية، ومرة رمزية »‬أولاد حارتنا» ثم أسطورية في روايته الرائعة »‬الحرافيش» .
غاصت الأعوام الاثنا عشر التي قضاها نجيب محفوظ في الجمالية إلي أعماقه، وانعكست بقوة في عالمه الروائي، ولم تظهر ضاحية العباسية التي عاش فيها شبابه كله وصدر رجولته إلا كمكان ثانوي، يكون الذهاب إليه انطلاقا من الجمالية، كما نجد في الثلاثية عندما كان يسعي كمال أحد أبطال الثلاثية لزيارة قصر آل شداد، أما منطقة العجوزة، أو شارع النيل، فلم تنعكسا في أعماله قط، لم تشده الشوارع الحديثة، والمباني الشاهقة، وأعتقد أنه مجرد مكان للإقامة، للنوم، وللعمل، ونفس الأمر بالنسبة لي، فقد عشت في حواري الجمالية لمدة ثلاثين عاما متصلة، وعندما تزوجت، اضطرتني ظروف أزمة الاسكان إلي السكن في حلوان، وابتعدت عن الجمالية جسدا لكنني لم أبتعد عنها روحا وقلبا، واعترف انني مازلت عاجزا عن التواصل مع ضاحية حلوان، فلا أنا قادر علي إقامة علاقات بها، ولا أنا قادر علي الشعور بها، ولا أكلف نفسي عناء استكشافها، ويخاطبني احساس دائم أن إقامتي فيها مؤقتة، وانني يوما ما سأعود مع أسرتي إلي الجمالية...
والحارة التي عاشها نجيب محفوظ في عشرينيات هذا القرن، تختلف عن الحارة التي عشتها حتي منتصف السبعينيات، كانت القاهرة القديمة في زمن نجيب محفوظ مركزا لسكني الطبقة المتوسطة والتجار الكبار، وكبار الموظفين، وكانت حواري الجمالية ذات تركيبة اجتماعية غريبة، في الحارة الواحدة نجد قصرا به حديقة غناء وإلي جواره نجد بيتا متوسطا تسكنه أسرة تاجر، وإلي جواره نجد ربعا ضخما، تسكنه عشرات الأسر الفقيرة كانت الحارة تضم مختلف المستويات الاجتماعية، ولا تزال هناك بقايا هذا النظام في حارة درب الطبلاوي بقصر الشوق التي كنت أسكنها، يوجد قصر المسافر خانة الشهير، أو قصر الضيافة الخاص بأسرة محمد علي باشا والذي ولد في إحدي حجراته الخديو إسماعيل، مازال هذا القصر باقيا حتي الآن، ولكن كمتحف، ومقر لبعض الفنانين التشكيليين، ومن الدور الكبيرة الباقية حتي الأن في الحارة، منزل آل شمس الدين، وفيهم شيخ الطريقة الأحمدية المرزوقية، ويقع إلي جوار سيدي مرزوق، وفي نفس الحارة توجد عمارات حديثة يسكنها بعض أبناء الطبقة المتوسطة وتوجد بيوت قديمة تسكنها عائلات فقيرة، في حارة الدرب الأصفر، كان يوجد حتي مطلع الخمسينيات عدد من الدور الكبيرة التي تحيطها الحدائق، أقدمها بيت السحيمي القائم حتي الآن باعتباره متحفا، وبيت مصطفي جعفر، الذي تتخذه هيئة الآثار كمقرلمكاتبها، أما بقية البيوت فقد اندثرت، منذ الثلاثينات بدأت البيوت ذات الحدائق في الاندثار، وبدأت هجرة العائلات الكبيرة من الجمالية إلي الاحياء المستحدثة في القاهرة، تحولت بعض الحواري الآن إلي وعاء للحضيض الاجتماعي، كما أن يد الاهمال بسطت أصابعها فوق المكان كله، وأذكر أن حارتنا »‬درب الطبلاوي» كانت تكنس وترش في اليوم الواحد مرتين، كان الكناس يأتي في الصباح، وعند الظهيرة، يجمع البقايا إلي جوار الجدران، ثم تأتي عربة الزبالة فتزيلها ثم تجيء عربة الرش، أماالآن فلكم أشعر بالحزن، والأسي عندما أري مياه المجاري طافحة، بحيث تجعل دخول المساجد القديمة والبيوت الأثرية والتجول أمرا صعبا، ومعظم حواري الجمالية كانت مبلطة بالحجارة، تماما كشوارع باريس القديمة، لآن قصر النظر الحضاري أصاب موظفي محافظة القاهرة، فقد استبدلوا بهذه الحجارة الأسفلت، حدث ذك عام 1969 وسرعان ما دبت الحفر، والمطبات، هذا ما حدث في حارة درب الطبلاوي علي سبيل المثال، ناهيك عن تغيير بعض معالم المنطقة، وكان من أبرزها هدم مقهي الفيشاوي القديم، هذا القرارالغبي الذي أجهز علي واحد من أرقي و أعرق مقاهي القاهرة القديمة، ولم يتبق منه إلا شظايا مكان، أعماله الروائية مرجع لتطور المدينة خلال القرن العشرين علي المستويين الظاهر والباطن.
الواقع والرمز
في أعمال نجيب محفوظ الأدبية نجد الحارة علي مستويين.. الأول واقعي والثاني رمزي، نجد المستوي الأول في أعمال نجيب محفوظ الواقعية، في زقاق المدق وخان الخليلي ثم الثلاثية، بين القصرين، قصرالشوق، والسكرية، في هذه الأعمال نلتقي بحارة محدودة الملامح والسمات، خاصة اذا طابقناها بالواقع، في هذه الروايات تتحرك الشخصيات في حارات محدودة، التزم نجيب محفوظ بتضاريس الواقع في منطقة الجمالية، والمتتبع لحركة الشخصيات في الروايات اذا طابقها بالمكان الواقعي سيجد أنه التزام مدهش بطوبغرافية المكان، ومعالمه، حتي يمكن بحق اعتبارالثلاثية وخان الخليلي وزقاق المدق، مراجع دقيقة لمعالم المكان خلال الزمن الذي دارت فيه الاحداث، يعكس هذه المعالم المندثرة مثل مقهي سي عبده الذي كان يقع تحت الارض، وكانت تتوسطه نافورة مياه تحيط بها المقاصير، وكان يجتمع فيه بطل الثلاثية كمال عبدالجواد بصديقه فؤاد الحمزاوي، لقد تتبعت علي الواقع حركة الشخصيات التي رسمها نجيب محفوظ فوجدت تطابقا دقيقا بين الوصف وبين معالم المكان، واذا ذهبنا اليوم إلي زقاق المدق فسنجد المقهي ودكان الحلاق، ودكانا آخر مغلقا ويقول أبناء الزقاق إنه كان هناك رجل بدين يبيع البسبوسة بالزقاق وهو الذي ظهرفي الرواية باسم عم كامل، أما المدق نفسه فمازال موجودا،كذلك الفرن.
في هذه المرحلة الواقعية كانت الحارة انعكاسا أمينا للمكان كما عايشه نجيب محفوظ...
أما المستوي الثاني الذي نجده في أعمال كاتبنا الكبير للحارة، فيمكن اعتباره المستوي الرمزي، ونجده في أولاد حارتنا والحرافيش وحكايات حارتنا والعديد من قصصه القصيرة، هنا تصبح الحارة مزيجا من الواقع والحلم، واقع مقطر، كما نجد في »‬حكايات حارتنا» وهذه الحارة الخاصة لها وجود مستقل، ولها مفرداتها، ورموزها، التي تتكرر من حين إلي آخر، نجد البيوت، وشجر اللبلاب، والمقهي، والقبو والخلاء، والسكينة، حيث رجال الله القابعون، المتفرغون لذكره دائما لايسفرون، ولا يظهرون، ولكن تتردد أصداء أدعيتهم الغامضة، حينا بالتركية، وحينا بالفارسية، أما الخلاء فهو نهاية هذا كله، منطلق وفسيح حدود الدنيا، يوحي بالعدم، وعند الأفق تبدو القباب والمآذن، وفي الزوايا يقوم شجر التوت.
في حواري نجيب محفوظ تتوالي الأيام معبقة بأسرارها وتظهر شخصيات، وترحل شخصيات، ويختفي البعض إلي الأبد، وتنشب خناقات، وتشج رءوس، وينصب فتوات، ويهزم فتوات، ويحل الجيل، مكان الجيل، وتنقضي الأعمار وتبقي أسوار التكية عالية تتردد من خلفها أصوات الدراويش، تبدو حواري نجيب محفوظ هنا شفافة تلخص كل ما في الحياة وتعكس ملامح الانسان في أطواره المختلفة، إنها باختصار، صورة مقطرة لعالمنا ودنيانا، صاغها أديبنا الكبير في شاعرية وحساسية مرهفة، وحب هائل لقلب قاهرتنا القديمة، خلالها عبر عن الانسانية والكون.
في عام 1994 وقع حادث خطير قلب حياته رأسا علي عقب، عندما حاول أحد المتطرفين الاسلاميين اغتياله، كلفه شيخه بقتل نجيب محفوظ بسبب رواية »‬أولاد حارتنا» التي نشرت عام 1959 مسلسلة في جريدة الأهرام، وطبعت في بيروت في 1965، ولم تنشر في مصر إلا بعد رحيله، اعترف الشاب »‬24 عاما» أنه لم يقرأ له كلمة لكن شيخه أمره بذلك، لم يلق محفوظ حتفه لكن السكين التي غرست في عنقه أصابت ذراعه اليمني بالشلل، أمضي عامين يتدرب فيهما علي الكتابة، وفي أحد الايام مال علي هامسا : اليوم نجحت في كتابة مستقيمة، لم أنزل من السطر، كان عمره عند المحاولة 84 سنة، مريض بالسكر، فقد سمعه تقريبا، بدأ يتعلم الكتابة من جديد كالاطفال، في آخر عامين راح يملي علي سكرتيره الاحلام، العمل الأدبي الذي يقارب الشعر، أنشودة الوداع الطويلة للحياة، لم يفقد الرغبة في الكتابة، خانه جسده ولم تخنه الموهبة، وعندما رأيته للمرة الاخيرة قبل وفاته بحوالي ساعة كان يحملق إلي اللاشيء، كنت واثقا أن ذهنه يعمل، غير أنه كان غير قادر علي النطق، هكذا رحل ولم يرحل.
في دروس شيكاجو، حرصت علي التعبير عن رؤيتي من خلال الخاص والعام، الدرس الثاني كان عن نجيب محفوظ، شهادة عن صديق قريب وكاتب عظيم تأثرت به..
مازلت أذكر هذا اليوم البعيد، ربما كان في عام 1960 أو عام 1961، لا أدري موقعه بالضبط بين الايام، لكنه بالتأكيد يوم جمعة، كنت أقف في شارع عبدالخالق ثروت، في مواجهة المدخل الجانبي للأوبرا التي احترقت، كنت أنتظر أحد الأصدقاء، عندما وقعت عيناي علي نجيب محفوظ لأول مرة، كان قادما من ناحية ميدان العتبة، متجها إلي ندوة الاوبرا الاسبوعية، كيف تعرفت عليه، ربما صوره التي علقت بذهني، تلك الصور التي كانت تنشرها الصحف والمجلات، لم أكن أعرفه، غير أن راحة غمرتني، فهذا عظيم ممن قرأت لهم. الروائي العربي الوحيد الذي تعلقت بأعماله، تلك الاعمال التي كانت تحمل عناوين المنطقة التي أحيا فيها، القاهرة القديمة، والذي وجدت قامته تطاول قامة الروائيين الكبار الذين قرأت أعمالهم في هذا العمر البعيد: تولستوي، دستويفسكي، توماس مان، وغيرهم. دعاني الي ندوة الاوبرا الاسبوعية والتي أنتهت عام 1961 بسبب الأمن .
مضي عام، وكان مقر عملي الجديد في الدقي، كنت أمشي من الجمالية في الصباح الباكر إلي الحي الأنيق، وأعبر كوبري قصر النيل، وفوق الكوبري التقيت بنجيب محفوظ أذكر أن خطواته كانت أسرع، وكان بنيان جسده في ضعف جسده الحالي، وشعره أسود تماما، كان في الحادية والخمسين، وكان يعمل مستشارا ثقافيا لمؤسسة السينما، مقر مكتبه في مبني التليفزيون، يمشي يوميا من منزله إلي المبني، فوق الرصيف ذاته، يعبر من نفس المكان، وكالعادة يحمل في يده اليمني صحف الصباح، تعرفت به، وبدأت أصحبه مسافة قليلة من الطريق قبل ان أنثني معاودا سيري في الاتجاه المعاكس، في أحد هذه الاصباح النائية، أعطيته نسخة من مجلة »الأديب»‬ البيروتية التي كان يصدرها الراحل الكبير البير أديب، حيث نشرت أول قصة لي ، قصة عنوانها »‬زيارة» كان ذلك في عدد يوليو 1963.
في اليوم التالي قال لي إنه قرأ القصة، وأنها جيدة ، وأنه أعجب بها، وبدا علي وجهه ذلك التعبير الذي خبرته جيدا فيما بعد كلما أعجبته قصة أو رواية قرأها، لاحظت اهتمامه بكل انتاج أدبي جديد يصل إليه من أي أديب ناشئ أو مجهول، يقرأه بعناية، ويبدي رأيه شفاهة إذا كان الأديب يلتقي به، أو كتابة إذا كان يقيم بعيدا عنه، أيضا لا يهمل كتابة رد علي أي رسالة تصل إليه، برغم تعدد هذه الرسائل، سواء كانت قادمة من باحث في أدبه بإحدي الجامعات الاوروبية أو أديب مجهول يعيش في قرية نائية، وهذا ما لم أستطع أن أتعلمه منه للأسف، فلكم أضيق بكتابة الرسائل، فلا أخط خطابا إلا إذا كان الباعث دفقة شعورية، أو رغبة حادة في التواصل، تعلمت منه أن الأدب مجاهدة، وأنه يقتضي الدأب الشديد، والمثابرة، وأنه ليس وسيلة للنجومية، أو للظهور في أبواب أخبار المجتمع بالصحف، أو برامج التليفزيون، لقد كتب أشهر أعماله وهو في الظل، تعلمت منه أيضا هذا التنظيم الحديدي للوقت، أدرك أن العمر ضيق، أن العمر قصير والعلم كثير، وما أريد البوح به أدبا أكثر، وأن السنوات تمضي مسرعة، والأدب ليس نزوة ، وأنه في حاجة إلي جهد كبير، هائل، إلي المعايشة العميقة لحياة الناس، إلي التحصيل المستمر.
قال لي نجيب محفوظ :
»‬نعم أنا منظم، والسبب في ذلك بسيط، إذ عشت عمري كموظف، وأديب، ولو لم أكن موظفا لما كنت اتخذت النظام بعين الاعتبار، كنت فعلت ما أشاء وفي أي ساعة أشاء، لكنني في هذه الحالة، كان علي أن أستيقظ في ساعة معينة، وأكون في الوظيفة في ساعة معينة، ويبقي لي من اليوم ساعات معينة، فإن لم أنظم هذا اليوم فسأفقد السيطرة عليه، لقد عودت نفسي علي ساعات معينة للكتابة، وفي البداية كانت روحي تستجيب أحيانا، لكنني مع الزمن اعتدت ذلك، انني اكتب عادة عند الغروب، ولا أذكر أنني كتبت أكثر من ثلاث ساعات، وفي المتوسط لمدة ساعتين، أشرب في اليوم الواحد خمسة فناجين قهوة وأسهر حتي الثانية عشرة ليلا، واكتفي بخمس ساعات نوم».
عندما يكتب نجيب محفوظ يدير ظهره للعالم، لا يعبأ بشيء، ربما يبدو في حياته الخاصة واليومية محافظا، متزنا، لكنه عندما يبدأ إبداعه ينطلق بلا تردد بلا خوف، بلا أدني هاجس، أو حذر، هكذا بدا في قصصه القصيرة خلال الستينيات التي كانت تبدو كأحد مظاهر المقاومة لمصادرة الحريات، كذا في »‬ثرثرة فوق النيل»، و»‬ميرامار» و »‬اللص والكلاب»، في هذه الاعمال حذر من السلبيات الكامنة في المجتمع والتي أدت فيما بعد إلي هزيمة يونيو.
قال نجيب محفوظ :
»‬الثورة عند الأديب تبدأ في قلبه أولا، وفي تفاعله مع الناس ثانيا، تبدأ في إحساسه التنبؤ الطبيعي الذي لا أعتقد أن فنانا يستحق هذا الاسم خال منه، لان الفنان الأصيل كالحيوان، كالعصافير والفيلة والنسور التي عندما تحس بخطر محدق تصدر بالغريزة أصواتا خاصة معلنة للملأ أن خطرا ما آت، والفنان إذا لم يكن عنده هذا القدر من الاحساس العام الذي يجعله ويجعل أدبه في مستوي النبوءة متضمنا دعوة إلي هذا الاتجاه أو ذلك، تكون أجهزته كلها معطلة أو مختلة، إن الفنان في الواقع لا يتنبأ، وإنما يحس الرؤيا، رؤيا الواقع.
وقال نجيب محفوظ :
»‬أحيانا يجد الفنان صعوبة في التعبير عن نفسه، خاصة لموقف الدولة منه، وهذا وضع عام في العالم العربي، أننا لا نستطيع أن نفصل عمل الأديب عن الدولة إطلاقا، وصوت الأديب صوت لابد أن يهز الدولة بالرضي أو السخط، وبالنسبة إلي موقفها من حرية الرأي تكون معاناته، وإذا تجاهلت الدولة صوت الأديب، فإن الدولة تكون هي الخاسرة، لأن صوت الأديب صوت كاشف عن الحقيقة، وإذا كانت الدولة تريد أن تعرف واقعها وتعرف مستقبلها فالأديب يعرف ويعطي مالا تستطيع أن تعرفه أو تعطيه جميع أجهزة المخابرات، بينما إذا كتمت الدولة هذا الصوت فلن يعود عليها إلا بالخسارة، وهي هنا كالذي يضع عصابة علي عينيه برضاه كي لا يري أنه حر، لكنه هو الخسران أولا وأخيرا، حرية الرأي شيء ضروري جدا للأديب، وللأديب وللصديق وللعدو، للعاقل، وللحكيم، ولا يخشي من هذه الحرية إلا واحد فقط هو غير الحكيم.
وأسأل نجيب محفوظ :
»‬أحيانا أجد تناقضا بين بعض ما تقوله في أحاديثك وبين ما أقرأه في انتاجك الفني».
أجابني باختصار :
»‬صدق إذن العمل الفني».
المكان.....
لم أر إنسانا ارتبط بمكان نشأته الأولي مثل نجيب محفوظ، عاش في الجمالية اثني عشر عاما، هي الأعوام الأولي من عمره، ثم انتقل إلي العباسية، لكنه ظل مشدودا إلي الحواري والأزقة والأقبية.. إلي الحسين إلي الجمالية، إن الناس الذين عرفهم وعرفوه، ثم كان المكان محورا لأهم وأعظم أعماله الأدبية، ومع بداية الصيف يتوقف نجيب محفوظ عن الكتابة طوال العطلة وحتي بداية الخريف، وذلك بسبب مرض عينيه بالحساسية وفي الأسبوع الأول لعطلته، ذهب إلي الحسين، إلي الجمالية وكنت معه، لقد صحبته كثيرا إلي الحسين، وهناك راقبت انفعالاته، وتجولت معه في الحواري والشوارع التي عشت فيها ثلاثين عاما.
البداية من ميدان الحسين.. في قلب الميدان توقفنا للحظات، بدا وجه نجيب محفوظ هادئا، مستكينا لتأثير الذكريات التي كانت تتوالي عليه، تطلع إلي مبني إدارة جامع الازهر، قال :
هنا كانت مدرسة خليل أغا الثانوية..
قلت له : إن معالم الميدان تغيرت عدة مرات خلال السنوات القريبة، منذ أن أقدم أحد المحافظين علي استصدار قرار بهدم الفيشاوي ومجموعة المباني القديمة التي كانت تجاوره، في وسط الميدان كانت ساعة ميدان، ثم أقيمت نافورة، عدلت، ثم أحيطت بحديقة، وفي نفس هذا المكان منذ حوالي ثلاثين عاما، كان موقف عربات سوارس التي تجرها الخيول، وتتجه إلي الدرب الأحمر، إلي الحسينية.
أشار نجيب محفوظ إلي عمارات الأوقاف القائمة في الجهة الغربية من المسجد، قال :
كان هنا الباب الأخضر، فهو قبو كبير يؤدي إلي حارة ضيقة وكانت حياته، محورها الجمالية، والحسين، وهذه المنطقة، وعلي الرغم من سكنه في مناطق أخري من القاهرة، العباسية، وشارع النيل، إلا أنه لم يعكس هذه المناطق بنفس القوة التي صور بها الجمالية، وما تزال الحارة محور عالمه.
مرة واقعية، ومرة رمزية »‬أولاد حارتنا» ثم أسطورية في روايته الرائعة »‬الحرافيش» .
غاصت الأعوام الاثنا عشر التي قضاها نجيب محفوظ في الجمالية إلي أعماقه، وانعكست بقوة في عالمه الروائي، ولم تظهر ضاحية العباسية التي عاش فيها شبابه كله وصدر رجولته إلا كمكان ثانوي، يكون الذهاب إليه انطلاقا من الجمالية، كما نجد في الثلاثية عندما كان يسعي كمال أحد أبطال الثلاثية لزيارة قصر آل شداد، أما منطقة العجوزة، أو شارع النيل، فلم تنعكسا في أعماله قط، لم تشده الشوارع الحديثة، والمباني الشاهقة، وأعتقد أنه مجرد مكان للإقامة، للنوم، وللعمل، ونفس الأمر بالنسبة لي، فقد عشت في حواري الجمالية لمدة ثلاثين عاما متصلة، وعندما تزوجت، اضطرتني ظروف أزمة الاسكان إلي السكن في حلوان، وابتعدت عن الجمالية جسدا لكنني لم أبتعد عنها روحا وقلبا، واعترف انني مازلت عاجزا عن التواصل مع ضاحية حلوان، فلا أنا قادر علي إقامة علاقات بها، ولا أنا قادر علي الشعور بها، ولا أكلف نفسي عناء استكشافها، ويخاطبني احساس دائم أن إقامتي فيها مؤقتة، وانني يوما ما سأعود مع أسرتي إلي الجمالية...
والحارة التي عاشها نجيب محفوظ في عشرينيات هذا القرن، تختلف عن الحارة التي عشتها حتي منتصف السبعينيات، كانت القاهرة القديمة في زمن نجيب محفوظ مركزا لسكني الطبقة المتوسطة والتجار الكبار، وكبار الموظفين، وكانت حواري الجمالية ذات تركيبة اجتماعية غريبة، في الحارة الواحدة نجد قصرا به حديقة غناء وإلي جواره نجد بيتا متوسطا تسكنه أسرة تاجر، وإلي جواره نجد ربعا ضخما، تسكنه عشرات الأسر الفقيرة كانت الحارة تضم مختلف المستويات الاجتماعية، ولا تزال هناك بقايا هذا النظام في حارة درب الطبلاوي بقصر الشوق التي كنت أسكنها، يوجد قصر المسافر خانة الشهير، أو قصر الضيافة الخاص بأسرة محمد علي باشا والذي ولد في إحدي حجراته الخديو إسماعيل، مازال هذا القصر باقيا حتي الآن، ولكن كمتحف، ومقر لبعض الفنانين التشكيليين، ومن الدور الكبيرة الباقية حتي الأن في الحارة، منزل آل شمس الدين، وفيهم شيخ الطريقة الأحمدية المرزوقية، ويقع إلي جوار سيدي مرزوق، وفي نفس الحارة توجد عمارات حديثة يسكنها بعض أبناء الطبقة المتوسطة وتوجد بيوت قديمة تسكنها عائلات فقيرة، في حارة الدرب الأصفر، كان يوجد حتي مطلع الخمسينيات عدد من الدور الكبيرة التي تحيطها الحدائق، أقدمها بيت السحيمي القائم حتي الآن باعتباره متحفا، وبيت مصطفي جعفر، الذي تتخذه هيئة الآثار كمقرلمكاتبها، أما بقية البيوت فقد اندثرت، منذ الثلاثينات بدأت البيوت ذات الحدائق في الاندثار، وبدأت هجرة العائلات الكبيرة من الجمالية إلي الاحياء المستحدثة في القاهرة، تحولت بعض الحواري الآن إلي وعاء للحضيض الاجتماعي، كما أن يد الاهمال بسطت أصابعها فوق المكان كله، وأذكر أن حارتنا »‬درب الطبلاوي» كانت تكنس وترش في اليوم الواحد مرتين، كان الكناس يأتي في الصباح، وعند الظهيرة، يجمع البقايا إلي جوار الجدران، ثم تأتي عربة الزبالة فتزيلها ثم تجيء عربة الرش، أماالآن فلكم أشعر بالحزن، والأسي عندما أري مياه المجاري طافحة، بحيث تجعل دخول المساجد القديمة والبيوت الأثرية والتجول أمرا صعبا، ومعظم حواري الجمالية كانت مبلطة بالحجارة، تماما كشوارع باريس القديمة، لآن قصر النظر الحضاري أصاب موظفي محافظة القاهرة، فقد استبدلوا بهذه الحجارة الأسفلت، حدث ذك عام 1969 وسرعان ما دبت الحفر، والمطبات، هذا ما حدث في حارة درب الطبلاوي علي سبيل المثال، ناهيك عن تغيير بعض معالم المنطقة، وكان من أبرزها هدم مقهي الفيشاوي القديم، هذا القرارالغبي الذي أجهز علي واحد من أرقي و أعرق مقاهي القاهرة القديمة، ولم يتبق منه إلا شظايا مكان، أعماله الروائية مرجع لتطور المدينة خلال القرن العشرين علي المستويين الظاهر والباطن.
الواقع والرمز
في أعمال نجيب محفوظ الأدبية نجد الحارة علي مستويين.. الأول واقعي والثاني رمزي، نجد المستوي الأول في أعمال نجيب محفوظ الواقعية، في زقاق المدق وخان الخليلي ثم الثلاثية، بين القصرين، قصرالشوق، والسكرية، في هذه الأعمال نلتقي بحارة محدودة الملامح والسمات، خاصة اذا طابقناها بالواقع، في هذه الروايات تتحرك الشخصيات في حارات محدودة، التزم نجيب محفوظ بتضاريس الواقع في منطقة الجمالية، والمتتبع لحركة الشخصيات في الروايات اذا طابقها بالمكان الواقعي سيجد أنه التزام مدهش بطوبغرافية المكان، ومعالمه، حتي يمكن بحق اعتبارالثلاثية وخان الخليلي وزقاق المدق، مراجع دقيقة لمعالم المكان خلال الزمن الذي دارت فيه الاحداث، يعكس هذه المعالم المندثرة مثل مقهي سي عبده الذي كان يقع تحت الارض، وكانت تتوسطه نافورة مياه تحيط بها المقاصير، وكان يجتمع فيه بطل الثلاثية كمال عبدالجواد بصديقه فؤاد الحمزاوي، لقد تتبعت علي الواقع حركة الشخصيات التي رسمها نجيب محفوظ فوجدت تطابقا دقيقا بين الوصف وبين معالم المكان، واذا ذهبنا اليوم إلي زقاق المدق فسنجد المقهي ودكان الحلاق، ودكانا آخر مغلقا ويقول أبناء الزقاق إنه كان هناك رجل بدين يبيع البسبوسة بالزقاق وهو الذي ظهرفي الرواية باسم عم كامل، أما المدق نفسه فمازال موجودا،كذلك الفرن.
في هذه المرحلة الواقعية كانت الحارة انعكاسا أمينا للمكان كما عايشه نجيب محفوظ...
أما المستوي الثاني الذي نجده في أعمال كاتبنا الكبير للحارة، فيمكن اعتباره المستوي الرمزي، ونجده في أولاد حارتنا والحرافيش وحكايات حارتنا والعديد من قصصه القصيرة، هنا تصبح الحارة مزيجا من الواقع والحلم، واقع مقطر، كما نجد في »‬حكايات حارتنا» وهذه الحارة الخاصة لها وجود مستقل، ولها مفرداتها، ورموزها، التي تتكرر من حين إلي آخر، نجد البيوت، وشجر اللبلاب، والمقهي، والقبو والخلاء، والسكينة، حيث رجال الله القابعون، المتفرغون لذكره دائما لايسفرون، ولا يظهرون، ولكن تتردد أصداء أدعيتهم الغامضة، حينا بالتركية، وحينا بالفارسية، أما الخلاء فهو نهاية هذا كله، منطلق وفسيح حدود الدنيا، يوحي بالعدم، وعند الأفق تبدو القباب والمآذن، وفي الزوايا يقوم شجر التوت.
في حواري نجيب محفوظ تتوالي الأيام معبقة بأسرارها وتظهر شخصيات، وترحل شخصيات، ويختفي البعض إلي الأبد، وتنشب خناقات، وتشج رءوس، وينصب فتوات، ويهزم فتوات، ويحل الجيل، مكان الجيل، وتنقضي الأعمار وتبقي أسوار التكية عالية تتردد من خلفها أصوات الدراويش، تبدو حواري نجيب محفوظ هنا شفافة تلخص كل ما في الحياة وتعكس ملامح الانسان في أطواره المختلفة، إنها باختصار، صورة مقطرة لعالمنا ودنيانا، صاغها أديبنا الكبير في شاعرية وحساسية مرهفة، وحب هائل لقلب قاهرتنا القديمة، خلالها عبر عن الانسانية والكون.
في عام 1994 وقع حادث خطير قلب حياته رأسا علي عقب، عندما حاول أحد المتطرفين الاسلاميين اغتياله، كلفه شيخه بقتل نجيب محفوظ بسبب رواية »‬أولاد حارتنا» التي نشرت عام 1959 مسلسلة في جريدة الأهرام، وطبعت في بيروت في 1965، ولم تنشر في مصر إلا بعد رحيله، اعترف الشاب »‬24 عاما» أنه لم يقرأ له كلمة لكن شيخه أمره بذلك، لم يلق محفوظ حتفه لكن السكين التي غرست في عنقه أصابت ذراعه اليمني بالشلل، أمضي عامين يتدرب فيهما علي الكتابة، وفي أحد الايام مال علي هامسا : اليوم نجحت في كتابة مستقيمة، لم أنزل من السطر، كان عمره عند المحاولة 84 سنة، مريض بالسكر، فقد سمعه تقريبا، بدأ يتعلم الكتابة من جديد كالاطفال، في آخر عامين راح يملي علي سكرتيره الاحلام، العمل الأدبي الذي يقارب الشعر، أنشودة الوداع الطويلة للحياة، لم يفقد الرغبة في الكتابة، خانه جسده ولم تخنه الموهبة، وعندما رأيته للمرة الاخيرة قبل وفاته بحوالي ساعة كان يحملق إلي اللاشيء، كنت واثقا أن ذهنه يعمل، غير أنه كان غير قادر علي النطق، هكذا رحل ولم يرحل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.