عرف الناس الكاتب الكبير مصطفي أمين صحفياً لامعاً ومؤسساً ل »دار أخبار اليوم« ولمدرسة حديثة في الصحافة.. مدرسة الخبر القصير والتحقيق الصحفي الجريء. أما ابنته صفية مدير تحرير «أخبار اليوم» الآن فقد عرفت مصطفي أمين آخر.. عرفته أبا وإنسانا.. عاشت معه في منزله وهي طفلة صغيرة وشاهدت صعوده لقمة الصحافة.. ثم اقتربت منه في محنته عندما اتهم ظلما عام 1965 في قضية التخابر الشهيرة.. وأثبت القضاء العادل بعدها بسنوات براءته.. ولكن بعد أن قضي الكاتب الكبير 9 سنوات كاملة في السجن! يومها رأته صفية قوياً في محنته.. نجح بصبره وثباته أن ينتصر علي ظالمية ويسخر منهم. صفية مصطفي أمين اختارت الجانب الآخر لمصطفي أمين.. صاحب «دار أخبار اليوم». عرف الناس مصطفي أمين الصحفي الشهير، لكني عرفت مصطفي أمين آخر.. عرفوا مصطفي أمين عملاق الصحافة وأنا عرفت الاب والانسان.. الذي عاش في القمة، تكتب عنه كل الصحف، وكتاباته تملأ الدنيا، والاضواء مسلطة علي سكناته وحركاته وأفكاره، وعرفته ايضا في أيام الشقاء، وهو يعيش في زنزانة صغيرة بسجن طرة. جئت إلي هذه الدنيا، لأجد أبي »مصطفي أمين« شخصية لامعة، تتميز بمكانة محترمة في كل الاوساط ورأي مؤثر حتي مع من يختلفون معه. عرفت عملاق الصحافة بسيطا، متواضعا، لا يتكبر علي أي عمل مهما صغر، فإن غاب محرر الحوادث وهو رئيس تحرير الجريدة، وصاحبها قبل التأميم نزل بنفسه لتحقيق الحادث. ولاعجب في ذلك لانه عشق الصحافة، وكانت تشغل تفكيره علي مدي الاربع والعشرين ساعة في اليوم فإذا عاد إلي البيت بعد يوم طويل من العمل الشاق وجلسنا علي السفرة، وبدأ في تناول الطعام، لا يكمله ويترك المائدة إن وصله »شائعة خبر« ويسرع إلي التليفون ليتأكد من صحة الخبر، ثم يتصل بالمحرر المسئول ويطلب منه التحري عن تفاصيل الخبر. ولا ينتهي الامر عند هذا الحد، بل يستمر في المتابعة حتي يقرأ ما كتب علي صفحات الجريدة في اليوم التالي.. ولا ينسي بعد النشر، تشجيع المحرر والثناء علي جهده. عرفت مصطفي أمين مجرد كاتب لا يتولي أي مسئولية تنفيذية في الجريدة التي أسسها بماله وجهده لم الحظ اي حزن أو مرارة في تصرفاته بل لاحظت حرصه »حتي آخر يوم في حياته« علي نجاح هذه المؤسسة وتقدمها. كان يحترم القارئ ويحرص في عمود فكرة علي أن يعبر عن مشاكل المظلومين ودعا لمساعدة المرضي ومساندة الضعفاء من خلال مشروعاته الانسانية التي مازالت مستمرة حتي الآن. ملابس السجن ثم عرفت مصطفي أمين الآخر.. الذي إختفي من بيننا مضطرا. لا نعرف عنه الكثير غير كلمات من هنا وهناك حيث امتدت فترة اعتقاله لمدة سنة ونصف قبل المحاكمة الصورية التي إنتهت بحكم ظالم بالاشغال الشاقة المؤبدة. وبعد أن صدر الحكم سمح للاسرة بزيارته في سجن طرة. كان يرتدي ملابس السجن البيضاء وقف شامخا رافعاً رأسه مبتسما.. لم اره في أي لحظة خلال تسع سنوات من السجن ذليلا أو خائفا، مهما تعرض للظلم أو القهر! نجح في التكيف مع الظروف القاسية المحيطة به، وتعامل بلباقة وذكاء مع فئات مختلفة من السجناء: قتله تجار مخدرات سياسيين. وأستطاع ان يكون صداقات حميمة مع الكثير منهم وقال رأيت في قاع المدينة نبلا وإيمانا وشجاعة وجرأة ومروءة لم أرمثلها في قمة المدينة. كان يتعامل مع هؤلاء السجناء كأنهم افراد اسرته ينقل إليهم خبراته وتجاربه في الحياة. يستمع إلي مشاكلهم.. ويساعدهم في حلها. فأحد السجناء تخلت زوجته عنه وهو في السجن وطلبت الطلاق.. فجلس معه وحاول أن يخفف عنه، ويرشده إلي الاسلوب الامثل لعلاج أزمته. وسجين آخر.. يشكو إليه عقوق ابنائه الذين لا يأتون لزيارته في السجن. كان صدره يتسع للجميع ويدعوهم للحب مؤكدا ان الحب يمنح الصبر والقدرة علي التحمل. كان يعتبر الكراهية مرضا ويدعو لمن يكره بالشفاء ويبحث عن عذر لكل من يخطئ في حقه ويرجعه إلي الطبيعة البشرية. عرفته قويا صامدا فترة سجنه. نجح في ان يحول زنزانته في طرة إلي مكتب في أخبار اليوم. يكتب القصص ويهربها إلينا مع الضباط وأسر السجناء حتي يتم نشرها في المجلات اللبنانية بتوقيع الاستاذ كان يبحث كل يوم عن أمل جديد.. يكتب ويقاوم الاحساس بالظلم ويبتسم في احلك لحظات حياته ويحتوي اسرته الصغيرة خلال الزيارة الشهرية ومن خلال الخطابات المتبادلة يحاول أن يعلمنا ويوجهنا ويبعث فينا الصلابة والقدرة علي مواجهة حياتنا القاسية بدونه. رسالة حب عرفته ايضا بعد أن إبتسمت له الدنيا مرة أخري، وافرج عنه الرئيس السادات بعد التأكد من براءته. خرج بأمل جديد.. وفكر جديد. خرج مليئا بالعطاء والحب استمر في عشقة للصحافة ولكن لم تعد الحياة السياسية تستهويه خرج للناس برسالة اخري رسالة حب ورسالة عطاء للانسانية. صحيح.. إنه عاش عمره كله يحب الناس ويهتم بمشاكلهم ولكن محنه السجن لتسع سنوات بسبب اتهام ظالم، عمقت لديه الشعور بارجاع الناس والحاجة لاسعادهم. بعث الحياة من جديد في مشروعه الانساني »ليلة القدر« الذي يرعي الفقراء والمحتاجين، واقام مشروع اسبوع الشفاء لعلاج المرضي غير القادرين ومشروعات خيرية اخري مثل »نفسي« وملجأ الايتام و»لست وحدك«. ظل يرعي مشروعاته الخيرية بنفسه ويلتقي بكل متبرع لهذه المشروعات.. مهما كانت قيمة تبرعه، حتي آخر يوم في حياته. هذا هو مصطفي أمين الذي عرفته