هل يمكن ان نتحدث عن الانسانية في الوقت الذي اصبح فيه كثيرون فقط هم من علي قيد الحياة وقليلون هم من علي قيد الانسانية ، اذ تجرد منها من كنا نقتدي بهم ثم اكتشفنا انهم يعتبرونها جوربا يرتدونه أول النهار ويخلعونه آخره، مع انهم صدعوا رؤوسنا علي مدي العامين والنصف الماضية بالحديث عن الحرية والديمقراطية والدولة المدنية وحق الانسان في التعبير والتظاهر والعيش الكريم، فإذا بهم يتخلون عن انسانيتهم مع المحنة الاخيرة. لماذا فقد البعض منا أنبل وارقي المشاعر التي ميزه بها الله سبحانه وتعالي عن الحيوان، مشاعر الرحمة والرأفة والمروءة والتكافل والتراحم بين جميع المنتسبين الي النوع الانساني بلا تفرقة من دين أو ملة أو طائفة أو جنس أو عرق. المشكلة ان واثق الخطوة أصبح اليوم هو من يمشي "نمرا". لا من يمشي ثائرا، وبالتالي تحقق ما سماه الكاتب السوري ممدوح عدوان ب"حيونة الانسان" ومنذ أن اجتبي الله الانسان وجعله دون سائر الكائنات خليفة له في الارض، تركز خوف الملائكة في مدي قدرة هذا المخلوق علي مغادرة مربع حيوانيته الهمجية وغرائز إنسان الغاب المتخلف الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء وسرعان ما جاءهم الجواب كاشفاً عما أودعه الخالق سبحانه وتعالي في هذا الكائن من احاسيس ومشاعر وقدرات عقلية تجعله مستعدا ومؤهلا للتحدي الكوني، فسجل القرآن اول الحكاية {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِين}َ (03 13 البقرة) وبمساعدة هذه القدرات بدأ الإنسان يتلمس طريقه إلي السلوك القويم والمثل الأخلاقية. يفشل أحياناً فيأكل من الشجرة فيطرد، ويقتل أخاه حقدا لانه نجح فيما فشل هو فيه، فيندم ويصرخ: {يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب، فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين} وحتي يحمي الله سبحانه وتعالي الانسان من الانزلاق في الهوة السحيقة لهذه الجرائم الوحشية، قال جل شأنه بعد سرد قصة قابيل وهابيل { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}. وهذا التناقض الذي بدأ بين إبني آدم حين قتل أحدهما الآخر، هو نفس التناقض القائم في عالم اليوم بين ما نشاهده من نزاعات وحشية وحروب اهلية وصراعات علي السلطة و أنظمة دكتاتورية واستغلال اقتصادي و تهافت القيم، وتداعي روح التضامن بين الناس، وانحسار روح المسئولية، وعدوان الإنسان علي الإنسان، وعبادة المال والقوة والسلطان. التناقض اليوم بين كل هذه الموبقات وبين نضالات الثورات الإنسانية المستمرة لتهذيب الإنسان وحمايته وإقامة الأنظمة المناهضة للاستبداد واحتكار السلطة والثروة والقضاء علي الفساد المالي والإداري وكفالة العدالة الاجتماعية والتأسيس الراسخ والمتين للعيش المشترك بين بني البشر علي اساس من المساواة التامة في الحقوق والواجبات. اليوم نحتاج الي ان نعود الي انسانيتنا ونعض عليها بالنواجذ. لعن الله السياسة، أم الشرور التي فرقتنا. ويا كل المصريين حافظوا علي إنسانيتكم وابقوا عليها. ولا تنصتوا لشياطين الانس والجن التي تحرص علي ان تنزعها منكم وعنكم. حقا ما استحق أن يولد من تجرد من إنسانيته.هل يمكن ان نتحدث عن الانسانية في الوقت الذي اصبح فيه كثيرون فقط هم من علي قيد الحياة وقليلون هم من علي قيد الانسانية ،