محمود صلاح أغلبهم ذهب إلي هناك. في البداية تصورت أنهم سافروا وأنهم سوف يرجعون واحداً بعد الآخر. لكن السنوات قالت لي إنني مخطئ. وإن هذا النوع من السفر لا يرجع منه المسافر أبداً! لابد انهم إذن اجتمعوا هناك. ولابد انهم عرفوا الاستقرار هناك. فهل اجتمعوا في مكان واحد هناك. أو ان هناك مسافات بينهم وتفرقوا هناك. كانوا معي وكنت معهم. وكانت الدنيا حلوة بهم. وكانوا نجوم حياتي التي تضيء أيامي ولياليّ. لم أكن قط واحداً منهم. لكني كنت لوحة اشتركوا كلهم في رسمها. حتي أصبحت أنا في النهاية! منهم من علمني الحب. وكيف نبض القلب. ومنهم من فتح عيني علي حقائق الدنيا. منهم من ملأ روحي مثالية وجعلني أسير الخيال. ومنهم من غرس بذور الشهامة والفروسية في روحي. علموني كيف أكون رجلاً. وكيف أكون إنساناً! لم أعرف كيف يضحك القلب إلا معهم. ولم أذق حلاوة الدنيا إلا وسطهم. ولم أكتشف نفسي إلا في عيونهم. لم أجد أذناً تسمعني غير آذانهم. ولا واحة تريحني إلا أحضانهم. ولم أحب سوي وجوههم! كانوا لي الأهل والسند والوطن. الأرض والبحر والسماء. فلما ذهبوا واحداً بعد آخر. أضحيت يتيماً ضعيفاً شارداً. لا أرض أقف عليها ولا بحر ينقلني إلي شاطئ أمان. ولا سماء تشهد علي أحلامي المحبطة. وطالت غيبتهم في سفرهم. حتي بات اشتياقي لهم يوجعني. وحتي ذكرياتي السعيدة معهم. أخذت تنسحب إلي أركان النسيان. ذكري بعد ذكري. وأصبح ما تبقي من ذكريات يفوق الاشتياق. أصبحت الدنيا بدونهم لا طعم ولا مذاق لها. أصبحت الدنيا فاترة وهم ليسوا حولي فيها. أصبحت صعبة علي نفسي. كأنها لم تعد دنيا! ولم يعد عندي غير سؤال يتكرر. متي ينتهي كل هذا. متي ألتقي بهم من جديد؟. ويضحك قلبي عندما تطالع عيناي وجوههم الحبيبة. ويعود الدفء إلي نفسي الباردة عندما نجتمع من جديد. يا أصدقائي الذين ماتوا واحداً بعد الآخر. وحشتوني!