السيد النجار تعدد وتنوع زيارات المسئولين الأمريكيين وأعضاء الكونجرس إلي مصر هذه الأيام.. تقول أننا نسير علي الطريق الصحيح.. لن نعود الي الوراء ولا لسياسة التبعية وتلقي الأوامر وممارسة الضغوط.. أيقن الأمريكان أن مصر تغيرت فعلا.. الرفض الرسمي للضغوط والتهديدات الأمريكية بسبب قضية التمويل الخارجي.. كان حاسما ورسالة واضحة.. لن نخضع لشروط.. ولا إملاءات.. ولن نركع إلا لله وحده.. لن نفرط في سيادة مصر واحترام قانونها.. واصل الأمريكان كل وسائل الضغط وطرق الابتزاز لزعزعة الموقف المصري وتراجعه أو علي الأقل القبول بسياسة الحلول الوسط.. ولكن دون نتيجة علي المستوي الرسمي الذي لاقي قبولا ومساندة شعبية قوية. تمثلت في الرفض الشعبي لأي شروط أو تهاون في كرامة مصر وسيادتها، ودعوات بعض النخبة لرفض المعونة الأمريكية ومقاطعة بضائعهم والمطالبة باعادة توازنات وأولويات مصالح السياسة الخارجية المصرية. انطلقت المهادنة في الموقف من الجانب الأمريكي.. رغم بعض الأصوات القوية بالإعلام والكونجرس التي لاتزال تطالب بتأديب مصر وحرمانها من المساعدات. من هنا كانت الزيارات المكثفة للمسئولين الأمريكيين ومنها زيارة السناتور جون ماكين إلي مصر بعد غد »الاثنين«.. التهافت الأمريكي ليس رضوخا لمصلحة مصر أو من أجل عيون شعبها، ولكنه أولا وأخيرا من أجل المصالح الأمريكية وفهم توجهات السياسة المصرية نحوهم، بعد أن فشل اختبار القوي الاول ضد سلطة انتقالية، وبعد تغير جوهري في سياسة التبعية المصرية لهم طوال 30 عاما. والتفاف الشعب حول قرار أو موقف لحاكمه لأول مرة أيضا.
30 عاما خضع فيها الشعب المصري لسياسة الإرادة المسلوبة داخليا وخارجيا.. رهنا لوضع اقتصادي سييء والحاجة الدائمة للديون والمنح.. ارادتنا الداخلية شرحها يطول ونعرف جميعا كم عانينا منها وانعكاسها علي مظاهر حياتنا. وتحملناها بمنطق مبررات وأولويات وأملا في غد طال انتظاره.. ولكن الوجع الدائم للمصريين كان إهانة كرامتهم والمساس بسيادتهم علي المستوي الخارجي والعلاقات الندية مع دول العالم.. عاشت مصر خلال هذه السنوات عهدا خضع فيها قرارها السياسي لمنطق مخجل يبرر للمرأة المحتاجة أن تعيش من بيع جسدها.. ومن هنا كانت مفاجأة الأمريكان في قضية تمويل المنظمات الأجنبية، أن مصر أصبحت تعمل بالقول المأثور »تموت الحرة ولا تأكل بثدييها«. 30 عاما فقدنا مقومات السيادة واحترام القانون والحفاظ علي كرامة مصر والمصريين. في عام 1985 مارست أمريكا عملية قرصنة جوية باختطاف الطائرة المصرية التي كانت متجهة من القاهرة الي تونس لنقل أربعة فلسطينيين شاركوا في عملية خطف السفينة اكيلي لاورو وقتل أحد الامريكيين علي متنها. واجبرت قائد الطائرة علي الهبوط في مطار احدي قواعد حلف الناتو في جزيرة صقلية بعد اذن ايطاليا.. رفض كراكس رئيس وزرائها طلب أمريكا تسليم المختطفين واتخذ موقفا حازما بعودة الطائرة المصرية إلي القاهرة. بعد نجاح تهريب المختطفين الأربعة.. شعر المصريون بالمهانة وعدم اتخاذ موقف حاسم أو اجراء يحفظ ماء الوجه في العالم.. وكان الرد الغريب من حسني مبارك.. ماذا نفعل للضرورة أحكام لو اتخذنا موقفا سيجوع الشعب المصري عندما تأمر أمريكا سفنها المحملة بالقمح معونة لنا بالعودة من عرض البحر.. حينذاك برر المخلوع موقفه بالمثل الشعبي الذي يبرر للمرأة أن تأكل ببيع جسدها. لم يستوعب مبارك الدرس.. من لا يمتلك قوته لا يمتلك حريته.. ولم يمل عليه ضميره أو نخوته المصرية أو أمانة المسئولية ان يجنب مصر مهانة إهدار كرامتها مرة ثانية او في مواقف مشابهة.. أهات المصريين من حسرة اهدار كرامة المصري وضياع قدرتها علي اتخاذ القرار الذي تستلزمه سيادتها واحترامها لسيادتها وقانونها لا تعد ولا تحصي.. في عام 2004 تعرض طبيب مصري للتعذيب دون جريرة أو خطأ أثناء عمله باحدي دول الخليج.. واصبحت قضية رأي عام.. لم يسمع مبارك صرخات المصريين بالحرية والحفاظ علي كرامتهم.. وكان تعقيبه.. نحافظ علي العلاقات الطيبة مع الدولة الشقيقة.. واذا اخذنا اجراء ستواجهه هذه الدولة بطرد آلاف المصريين العاملين لديها.. مثلما كان الحال عندما تعاون مبارك مع أمريكا ضد العراق. واتهم ببيع دولة عربية للأمريكان مقابل تخفيض 17 مليار دولار من الديون المصرية.. قال مبارك »يا ريت كل يوم نبيع دولة عربية ونكسب 17 مليار دولار«..؟!
القصص والروايات ليست للتسلية ولكنها للعظة والتذكرة بجذور القضايا التي نعاني منها اليوم.. ومحاولة لفهم السلوك الأمريكي الغاضب الذي اخذ يهدد ويتوعد بضغوط علي مصر أو قطع المعونة.. إما الافراج عن الامريكان المتهمين والسماح لأي عضو بأي منظمة علي ارض مصر بالتمتع بحريته كاملة حتي لو كانت التجسس وتقويض أمن مصر واستقرارها.. وإما الويل والثبور لمصر وللمصريين.. هذه القصص مهداة الي الامريكيين انفسهم حتي يعوا أن مصر تغيرت وان النظام الذي تحسروا عليه في إعلامهم مؤخرا لن تعود مواقفه ولا سياساته وأن مصر انتفضت وتخلصت من كل القيود. وأن التبعية فرضها نظام لم يفكر في أن يأكل شعبه من عمل يده وتوهم أن المصري يقنع بالشبع بديلا عن حريته وكرامته. من الممكن أن توجد حلول جزئية أو مؤقتة. ولكن لا يمكن للمبادئ أن تتجزأ أو لمواقف الكرامة أن تتأجل واذا كان عهد مبارك لم يعر المبادئ اهتماما.. ولم يثبت علي موقف.. ولم يصن كرامة مصر وشعبها.. فإن الثورة وضعت مصر علي عتبات مرحلة تاريخية أهم ما فيها إعلاء قيمة المبادئ والثبات علي المواقف طالما أن مصلحة مصر والحفاظ علي سيادتها وكرامتها هي الأساس.. هذا ما يجب أن يعيه الأمريكان اليوم.. دون مشقة في محاولة الفهم أو البحث والنقاش.. أو المساومة والمفاوضات.
الأمريكان لن يقطعوا المعونة.. ومرة أخري ليس من أجل سواد عيون المصريين ولكن لمصالحهم البحتة التي يعرفونها جيدا وقيمة مصر في المنطقة.. منذ إقرار المعونة الأمريكية عام 1978، لوحت أمريكا بقطع المعونات أكثر من 20 مرة.. مع كل ازمة أو حتي اختلاف في وجهات النظر تجاه قضية أو موقف. وكانت الغالبية منها بسبب مواقف من السلوك الإسرائيلي العدائي، ودعم القضية الفلسطينية والسعي إلي سلام حقيقي عادل.. مع كل بادرة أزمة تبدأ سيمفونية العزف الثلاثي الأمريكي، بالاعلام والكونجرس وادارة الحكم.. وفي كل مرة كان الرضوخ لشروط أمريكا، ليس لحاجتنا للمعونة فقط ولكن في اطار التفريط المتعمد في ارادة مصر السياسية.. هذه الارادة التي بدأت تضعف وتخفت حتي تلاشت في الفترات الأخيرة مع بوادر مشروع التوريث المصري برعاية أمريكية. فشلت اليوم ضغوط امريكا وانذاراتها بقطع المعونات ولن ينجحوا في تغيير مسار الثورة الذي تسعي إليه اليوم - ومن أجل مصالحها ايضا بالطبع - لتعديل مسار إلي مجهول لا هدف له إلا ان تظل مصر ضعيفة تابعة ولكن فشلهم في هذا يرتبط بقوة تصحيح مسار سياستنا الخارجية مع كل دول العالم وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة التي منحناها صكا بتوكيل عنا منذ انطلاق عملية السلام وهي بدورها سلمت هذا التوكيل لاسرائيل. نفضنا ايدينا من كل أوراق الضغط وقوتنا عندما اعلنا ان 99٪ من اوراق اللعبة بالمنطقة في يد امريكا.. وأنه لا حرب بعد أكتوبر.. وان السلام خيار استراتيجي..! مصر الثورة لابد أن تقوم سياستها علي التخلص من الوصاية الأمريكية.. لابد من تعديل مجالات اقتصادنا وتجارتنا مع العالم.. لابد من تنوع مصادر استيراد العتاد عسكريا كان أو صناعيا.. لابد من اختلاف توازنات السياسة الاقليمية مع ايران وتركيا.. وقبل كل شيء لابد أن نعي جميعا ان المعونات لا تبني دولا ولا تعطي صكا بالحرية والكرامة لشعب. عاجل حوارات الأستاذ عادة ما أقرأ أي حوار صحفي مع الأستاذ محمد حسنين هيكل ثلاث مرات.. المرة الأولي.. قراءة المتلهف الذي يريد أن يعرف في شوق وعلي عجل فيما تحدث الأستاذ.. اللهفة والعجلة لا تعني أنني تركت حرفا مما قاله لم أقرأه.. والمرة الثانية.. قراءة قدح الأفكار فيما يقوله بشأن القضايا المطروحة. وما قرأت لآخرين من أهل القلم والفكر والنخبة من الساسة والخبراء المهمومين بقضايا الوطن.. ودائما يكون الأستاذ المتفرد والحكيم برؤيته الشاملة، من معين التجربة والثقافة الواسعة والمعرفة المتميزة، والقدرة النافذة في تحليل الواقع في إطاره الإقليمي والدولي.. نتلهف علي ما يقول الأستاذ.. كاتباً ومحللاً سياسياً.. مفكراً ومؤرخاً.. نقرأه لنتعلم من الأجيال القدرة علي متابعة الأحداث والبحث عن المعلومة.. نقرأ لنتعلم قدسية الكلمة ونعرف مسئولية الكاتب في التنوير وتبصير الناس وسط ظلمة الطريق، والتشبث بالأمل وإزاحة اليأس مهما كانت الظروف غائمة والأفكار متصادمة.. والقراءة الثالثة لأي حوار للأستاذ.. قراءة المتعة والتعلم.. بمفردات الكلمات وحلاوة العبارات وجمال اللغة ودقة التشبيه ورقته.. علي صفحات الجريدة تشعر وكأنك حاضر أمامه.. بهيبة ووقار المعلم الحكيم ويقابلك بالود والأبوة الدافئة. ولكن يبقي الإحساس الدائم لدي من امتهن الصحافة والكتابة.. إنك عاجز ومقصر، وأن الزمان لن يجود علينا بمثله. وهذا الإحساس الذي خلصنا من عقدته ياسر رزق رئيس تحرير الأخبار في حواره المتواصل علي ثلاث حلقات الأسبوع الماضي. كان ياسر رزق الجدير بأن يحمل لقب الأستاذ من أجيال الصحافة المصرية علي خطي الأستاذ الكبير المعلم محمد حسنين هيكل. قراءة حوار الأستاذ هيكل علي صفحات »الأخبار« كان لها طابع خاص وطقوس مختلفة في القراءة بالنسبة لي.. فالأستاذ المبدع الشاب ياسر رزق يحاور التاريخ والفكر والأستاذية في محمد حسنين هيكل.. وفي وقت نخشي لأول مرة أن تتوه مصر في جنبات الزمن. الحوار.. جاء في ظروف ما أحوجنا فيها إلي رأي الأستاذ هيكل ليهدينا الطريق.. وما أحوجنا إلي ثقة في بعث جديد للصحافة مع ياسر رزق. يا ناس يا هووه..! من قال إننا في حاجة إلي مؤامرات خارجية لإشعال الفوضي وإثارة الفتنة.. أو تقسيم مصر إلي دويلات.. نحن نفعل بأنفسنا أسوأ ما يستطيع عدو أن يفعله بنا.. لدي قناعة بالأيدي الخفية المتآمرة التي تعبث في البلد.. ولكن نحن الأيادي الحقيقية التي يستخدمها المتآمرون حتي لو كانت في واقعة أو خلاف بسيط، لا نتخيل أن مؤامرة تشتعل في الخفاء، ولكن الكارثة أن نصل إلي درجة البلاهة و»الغباء الحيسي« لندمر أنفسنا بأيدينا. كما هي العادة دائما لأي خلاف بين مسلم ومسيحي دائما أبطاله رجل وامرأة ويتحول إلي فتنة طائفية ويتم شحن النفوس وتبدأ الآلة الإعلامية الغربية في ادعاءات الاضطهاد والعنف ضد الأقباط. ولكن ما حدث في العامرية من حكم الجلسة الودية أو القانون العرفي، بتهجير قسري لبعض الأقباط من القرية، حتي لو كان برضاهم، فهو المصيبة بعينها.. ولا تفسير لأي إعلامي غربي أو منظمة أهلية إلا أن ذلك تطهير ديني.. وإذا صمتنا أمام هذه الكارثة سوف تمتد وتنتشر وتكون البداية لإقامة دولة للأقباط.. ودعوة لآخرين للتقسيم إلي دويلات.. مصيبتنا أننا نتعامل اليوم مع كل ظاهرة بسطحية وغباء دون ادراك لما ستجره علي مصر من كوارث.. يا ناس ياهووه.. البلد فيها قانون من الذي اختلق بدعة الجلسات العرفية وأن لكل منطقة عادات وتقاليد يصلح معها القضاء العرفي، ولا ينفع فيها الاحتكام لقانون الدولة. فقط.. انتبهوا.. القضية أولا وأخيراً ليست في مشكلة فتنة بقرية، ولكنها سلسلة جديدة من أشكال الفوضي المخططة لمصر.. ما أن يهدأ مسلسل قطع الطرق وتعطيل الموانيء، حتي تنتشر الاضرابات الفئوية، وتليها موجة الخطف والهجوم المسلح علي البنوك. وعندما فشلت الدعوة إلي العصيان المدني، أخرجوا لنا من جراب الحاوي مسلسل الفتنة الطائفية من قرية العامرية بالإسكندرية إلي ميت بشار بالشرقية.. إلي مركز الشهداء بالمنوفية وقرية الإسماعيلية بالمنيا.. ربنا يلطف! السيد النجار