عرضوا عليه أن يكون أول رئيس جمهورية لمصر، فاعتذر ومن قبله عرضت إسرائيل علي الفيزيائي الكبير أينشتين فاعتذر وقال إنه لا يفهم الإنسان فكيف يدير دولة من البشر؟! والفيلسوف أفلاطون له كتاب اسمه(الجمهورية) أو المدينة المثالية، كيف يعيش الناس وكيف يدبرون حياتهم فحقق السعادة القائمة علي العدل لكل الناس وطلبوا إليه أن يطبق فلسفته في إحدي الجزر فهرب منها لم يستطع أن يطبق فلسفته وأن يسوس الناس في عالم مثالي. العالم من صنع خياله وعبقريته. رفض أن يكون ملكًا للمدينة المثالية. وكان رفض لطفي السيد باشا حسمًا لقضية: هل صاحب الفكرة هو أحسن من يطبقها.. وقضية أخري: أن يحلم صاحب النظرية أن تكون لديه القوة علي فرضها أو تطبيقها. ومن أحلام صاحب القوة أن تكون له فلسفة تمشي عليها قوته. أو تكون هذه الفلسفة ضوابط لقوته المطلقة. فصاحب الرأي يريد القوة، وصاحب القوة يريد الرأي. ولذلك رأينا عددًا من الفلاسفة إلي جوار صاحب القوة. فالإسكندر الأكبر كان إلي جواره الفيلسوف العظيم أرسطو.. وفي العصر الحديث كان إلي جوار هتلر الفيلسوف روزنبرج وإلي جوار موسوليني الشاعر داتيو وإلي جوار ديجول الأديب مالرو.. وكنا طلبة صغارًا عندما تشجعنا لزيارة لطفي السيد باشا، هو الذي شجعنا وسمعناه يقول بالحرف الواحد لأحد كان يعترض علي كتاباته: بل أنا الذي أريد الشباب.. أريدهم.. أن أحدثهم عن مستقبلهم وأسمع كيف هم الآن وكيف هم غدًا (صارخًا) دعهم يدخلوا.. دعهم.. أهلًا وسهلا.. وكان ذلك ترحيًبا حارًّا صريحًا قبل أن يرانا. واعتدل لطفي السيد باشا في جلسته وتساند علي المقعد لتحيتنا نحن الصغار وهو أستاذ أساتذة الفلسفة فقد ترجم عن الفرنسية كتاب (الأخلاق) لأرسطو.. وهو شاق. وكان اختباره تحديًا للصبر والاستمرار. ونموذجًا أشار إليه كثيرًا للتدليل علي الإرادة القوية التي يجب أن تكون أهم أسلحة الشباب. وكانت عبارات لطفي السيد باشا كلها حادة. خطوطًا مستقيمة الاستقامة النبيلة والشموخ الأخلاقي! لطفي السيد بلدياتي. وكل أهلي يعرفونه.. ولهم علاقات وحكايات مع أهل الباشا. الذي كان رئيسًا للجامعة والذي اتخذ موقف الدفاع عن حرية طه حسين يوم رفضه الناس وجردوه من دينه.. إلا لطفي السيد. ولم نكن علي وعي تام بما حدث وبما أحدثه الباشا في الحياة الجامعية وفي الدراسة وفي الفلسفة. وسألنا واحدًا واحدًا عن دراستنا. ولما قلت له: إنني في قسم الفلسفة وقال: أنت لي معك كلام خاص لا يهم زملاؤك. فقال أريد أن أجلس إليك.. هو يريد أن يراني؟ وهو يريد أن يجلس كأنني لطفي السيد وهو تلميذ يرتجف من مجرد اللقاء. وعندما حدثت زملائي عن مقابلة الباشا لم يصدقوني كيف؟ ومن الذي قدمني إليه. وقال ماذا؟ وماذا قال؟ والذي قلت ومطلوب شاهد علي ما أقول؟! إذن هذه الصورة التي حنطوها في خيالي: كاذبة.. والرجل في السماء ونحن في الأرض.. ولا هو يتكلم بجزء من أنفه وفمه. وإذا تحدث نظر إلي الحائط أو إلي الأرض يريد أن ينظر إليك تعاليًا وامتعاضًا. وقد حدث أن ذهب إليه فلان فألقي به من النافذة. ويوم ذهبت إليه فلانة تشكو زوجها حبسها في إحدي الغرف تأديًبا لها.. كل هذه حكايات وعقبات في الطريق إليه.. فلم يكن بيننا وبينه طريق. لقد وجدناه دون أن ندق الباب وكلمنا وهو لا يرانا.. فليس أبسط وأكثر ترحيًبا. وسأل أحدنا إن كان أبوه فلاًنا أو خاله فلاًنا. فهو يعرف أبناء المنطقة معرفة شخصية. فليس بعيدًا فوق، لا يراه الناس لأنه بعيد ولا يراهم. وبلا صعوبات نظر إلينا. فوجدنا جالسين وأشار إلي أحدنا أن يدنو أكثر وأن نقترب منه جميعًا حتي نستطيع أن نسمعه. فصوته خفيض فالرجل كبير في السن ومريض.. وعاد يسألني يوميًّا. فسألني ماذا أدرس وكان يهز رأسه مؤكدًا أنه يعرف وسأله ومن الذي يدرس لي الميتافيزيقا (ما بعد الطبيعة) والمنطق والفلسفة اليونانية. وبسرعة أشار ألي أن الفلسفة اليونانية هي الأصل ولاتزال الأعمق من كل الفلسفات العالمية والتي عاشت عليها اليوم وغدًا. وقال بصورة فاحصة: من يدرس الفلسفة اليونانية هذا سوف يعرف أنها هي الأصل. وأنها هي الأعلي والأكثر شبابًا من كل الفلسفات التي تفرعت منها وتنكرت لها! وعاد يسألنا الباشا واحدًا واحدًا وكأنما يريد أن يطمئن أين يذهب ما سوف يقوله لنا. وهل نحن نستحق ماسوف يقول . هل نحن مثل الشباب؟ فنحن جامعيون في الطب والهندسة والقانون والزراعة والفلسفة. وفي كل مرة أصعب من أي شيء يقول: سوف يكون لي كلام معك.. الآن أستطيع أن أصف لك الباشا. كان يرتدي جلبابًا أبيض كأنه سقراط. وكان أسمر أحمر نحيفًا حادًّا جدًّا ولا يظهر علي وجهه أية آثار مما يقول. والذي قاله لو أعاده شاب منا لكان صارخًا ولظهرت حماسته وحرارته في عينيه في شفتيه في يديه. ولكن الباشا قد قال وكتب وحكي. فهو لا يستطيع أن يتحمس فقد ترك الحماس لنا. ولا يستطيع أن يشرح أكثر فعلينا أن نبحث عن المعاني وأن نتعب. وإن كل الشاب لا يتعب لا يكل ولايمل. ولا يهمه الطعام والشراب. فهو يعيش بالإرادة القوية وعليها.. بإرادة المثقفين أو إرادة العلم هي التي تدفع الإنسان إلي الأمام. والعلم والشباب. هما عقل التطور في كل التاريخ. عندما يحاول أن يؤكد أهمية ما يقول تسمع قوته في إحدي يديه يدق بها اليد الأخري. ويقول يا شباب. اتقوا الله في بلدكم. واتقوا الله؛ فالأخلاق هي المنطلق. والإرادة والصبر وكلها عندكم. والبلد لا يريد منكم أكثر من ذلك! وكأنه يعرف أنني أنظر إليه وأحلل وأختزن وكأنه أراد أن ينقذ نفسه من نظراتي وحساباتي فدخل في الموضوع وراح ينظر إلينا في عيوننا. قال: أنتم سوف تقدرون علي الذي عجزنا عنه. وهذا هو مسار الحضارة. الناس حاولوا حتي تعبوا وجاء من بعدهم خلق جديد يحاول ويحاول ومهما فشلت المحاولة فإنه لايسقط. وحتي لو سقط فليست هذه نهاية التاريخ الإنساني. فالتاريخ خطوات والحضارات فترات. وأنتم الذين تصنعون القواعد والفواصل وأنتم حماتها. ولا أدعي أنني استوعبت الذي قال فلأول مرة أسمع من يخاطبنا: ياشباب.. فنحن طلبة نسينا أننا شباب. وقد استغرقنا في كتبنا لم نعرف أنها كنوز بلدنا وإنها تدخرنا لما بعد. وكأن الباشا تدارك أنه قد ألقي فوق دماغنا ما جعلنا نحط إلي الأرض ننوء بهذه الاحتمالات المفاجئة الثقيلة، فابتلع ريقه وطلب لنا شيئًا نشربه! وتحركت لا شعوريًّا أخرجت ورقة من جيبي أكتب ما يقوله الباشا تمامًا كما نفعل في محاضراتنا الجامعية: لا أعرف كم مرة تكررت كلمة الشباب الذي هو نحن. فهي أول مرة يقول لنا أحد أنتم شباب. ومن الذي يقولها- وكيف. إنه لطفي السيد باشا أستاذ الأساتذة وحكيم حكماء مصر. ويقول لنا نحن أربعة خمسة.. ستة من الشبان ذهبوا حبًّا في استطلاع من هو أين هو ولماذا نحن وضرب لنا مثلًا من التاريخ الفلسفي. وقارن بينها وبين الحركات الأدبية والطموحات السياسية. هذا ما فهمت. ولا أدعي أنني فهمت. ثم ذكر أسماء كثيرة ونظر إلينا يريد أن يعرف إن كنا متابعين مستوعبين ما يقول. ولا أعرف ما الذي قرأ في عيوننا. ومضي يقول كأنه قرأ أننا نعرف ونريد المزيد مع أن هذا ليس صحيحًا. فقد أحسسنا أن الطريق وعر. وأنه حسن الظن بنا. فلا نحن فاهمون ولا جادون ماذا يريد لنا وبنا. ولكننا نسمع ونحاول أن نفي بما نقول. وكان لا يكرر رأيًا. كأنه قد أيقن أنه لا داعي للتكرار ما دمنا واعين تمامًا لما يقول. ثم قال: وأنت؟ وأشار لي. فلم أعرف ماذا أقول - ولكنه يعرف ما يقال: وأنت ماذا درست وماذا أعددت ولا جواب عندي لمثل هذا السؤال. فأنا لم أدرس بدرجة كافية ولا أعددت شيئا. فكل إعدادي واستعدادي هوللامتحان أن انجح ويكون ترتيبي الاول هذا ماتقوله أمي فكان لها ما أرادت. وبس . وتخرجت وأردت أن أذهب بفلسفتي. ومن الذي يريدها وما الذي أفعل بها. أن أكون مدرسًا. وهي مهنة شاقة ملعونة: ملعونة من الطلبة والمدرسين أنفسهم. قال لي: أنت تمسك ورقة وقلمًا وتسأل نفسك ماذا عساك تفعل بنفسك وأسرتك وزوجتك وأولادك لأن الاستقامة الأخلاقية تفرض عليك أن تتزوج وأن يكون لك أولاد نواة سليمة - هكذا قال أستاذنا أفلاطون. هذا الوقت للزواج المبكر والأولاد. ونحن لا نجد قوت يومنا إلا بصعوبة. ولم تفلح الفلسفة في أن تقدم لنا شيئًا مختلفًا مفيدًا. وإنما أصبحنا هواة كلام وبناء قصور علي الرمال وفي الهواء وفي خيالنا. ومطلوب من هذا الخيال بقوة الإرادة أن يكون واقعًا. وأن يقع فوق دماغنا هذا الواقع الذي هو مصر المستقبل! إزاي يا باشا؟ ليس من شأن الباشا أن يذهب إلي أبعد من إلقاء المسئولية علي رءوسنا وأيدينا. وعلينا أن نبني مصر فورًا ليري أين ذهبت نصائحه.. ونحن غير قادرين علي البناء وتشييد قصور الفلاسفة وبهذه السرعة. فهذا ما يراه الناس.. وما يراه وهل نعصي له أمرًا؟!