لوسألني قل لي ماتعرفه عن طه حسين ؟ فلن يطول كلامي ولكني أعرف أنه رجل عظيم ، لكن لماذا؟ ليست عندي إجابة عن ذلك. كان طه حسين يلقي محاضراته في قسم اللغة العربية.وانا في قسم الفلسفة.. وكانت عندي محاضرة مهمة. ولكن فضلت طه حسين عليها. كانت القاعة قد امتلأت إلا قليلا. وفي هذا القليل أخدت مقعدي.وجاء طه حسين ومعه سكرتيره. وأجلسه علي المقعد.. وابتسم طه حسين. وتكلم عن الشعر في العصر.ووجدتني لاأسمع بوضوح فنقلت مكاني وجلست علي الارض بالقرب من الصف الأول من القاعة. وتكلم طه حسين بلا توقف. إنه يتراجع إلي الوراء ويرفع رأسه ويخفضه عند الكلام. ولكنه لايتوقف. أسلوبه مختلف وكلامه ونبرة صوته مختلفة ويمضي طه حسين في كلامه. ولايزال يصف الجو في العصر العباسي..الجو السياسي وبعد ذلك الشعراء وعلاقاتهم بالساسة في زمانه ومايشيع ذلك من قصائد مديح وهجاء. ولايتوقف طه حسين فهو يتكلم بصفة متصلة لايغير من نبرته في الكلام ولاصوت يعلو علي صوته. وانتهت المحاضرة.وجاء السكرتير وخرج طه حسين.وبدأ الطلبة يتناقشون طبعا كلهم معجبون بطه حسين بلا حدود بعضهم يقول ان خلاصةما قال طه حسين ربما في جملة أو جملتين.ولو كان العقاد هو الذي يتكلم لكانت هناك ألف فكرة. ولكن للأسف العقاد لا يحاضرهنا هو لايريد أو أنهم لا يريدون لأن العقاد ليس جامعيا فهو لم يحصل إلاعلي شهادة الابتدائية. ولكنه أكبر وأعظم من كثير من أساتذة الأدب العربي ولكنهم لايدعونه فهم دراويش طه حسين.. ولكني عدت لطه حسين في مذكراتي التي مزقتها. قلت ما معناه. الرجل صغير الحجم . نحيف قصير. ملامحه حادة رغم أن كلامه من حرير. ولكن نري في ملامحه عظمة هادئة واصرارا ساكنا وهو لاشك موهبة عظيمة. وكلامه في المحاضرات سهل. وهو يشرح كثيرا مايقول كأنه علي يقين من غباوة بعض الطلبة. ولذلك يكرر ويعيد ويزيد وكأنه مطرب يجد هو الآخر لذة فيما يسمعه من إطراء عليه في كل مكان . تشجعت. وطلبت من سكرتير طه حسين: أرجو أن ألتقي بطه حسين. ولم أنتظر طويلا حتي تحديد موعد اللقاء في بيته في ساعة مبكرة كانت الثامنة وفي الموعد تماما انفتحت لي كل الأبواب وعلي اليمين مكتب طه حسين. وطه حسين كان جالسا بالقرب من الباب. سمعني فوقف لتحيتي قائلا: أهلا بك ياسيدي! هذا الأدب أذاب الكلام الذي كنت قد أعددته وقررت أن أغيرالكلام وأحوله إلي حديث معه وأيامها كنت المحرر الأدبي لصحيفة (الأخبار).. وابتدعت أسئلة وقضايا. وكما كان طه حسين يتحدث في الجامعة كان يتحدث لي في مودة.. شيء غريب أن هذا الذي رأيته عند طه حسين لم أره عند العقاد. فالعقاد جاف خشن صارم أحيانا طبيعي أن يحب الطلبة طه حسين والأساتذة وكل الناس وماذا يطلبون من عظيم إلا أن يكون أكثر تواضعا واشدألفة وأعمق مودة ماذا نقول لرجل يقول لطالب ياسيدي قالها عشرين ثلاثين مرة في هذا الحديث كلما أراد أن ينتقل من موضوع إلي آخر اختلقت سؤالا مارأيك يا أستاذنا العظيم في الترجمة؟ نحن لانترجم عن الغرب كتبا كثيرة إننا نحتاج إلي من ينقل لنا حضارة الغرب فالإقبال علي اللغات عندنا قليل فالإنجليز احتلوا مصر سبعين عاما وليس بيننا من يتكلم الإنجليزية كأهلها.. أما الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان وتونس والجزائر والمغرب فقد ترك فيهم أناسا كأنهم فرنسيون في التحدث والتفكير واكثر ارتباطا بالام فرنسا؟ ابتسم طه حسين واعتدل في جلسته ورفع رأسه وكأنما يتلقي الوحي وقال ياسيدي أنت أثرت قضية هامة جدا لأننا لسنا نحتاج إلي ترجمة الكتب وانما إلي ترجمة العلوم. فالشعوب ترقي بالعلم وتنتعش بالأدب. فالعلم لايفسد الذوق. والأدب لا يصيب العلم بالخرافة والمثل الأعلي أن نتلقي العلم وأن ننقله للناس في سهولة ويسر. وقال ياسيدي عشرين مرة.. وكان في نيتي أن أعرض عليه شكوانا من خشونة الأستاذ العقاد ورفضه لأن نناقشه أويكون لنا رأي مخالف . فكرة أن نذهب إلي طه حسين هي فكرتي. قد هدم العقاد الدينا كلها دون أن يهتزله جفن. وهدمها واتجه يبحث عن شيء آخر يهده. ولم ينتبه إلي أنه أصابنا في مقتل. يقال إن الإسكندر قد ذهب في غزواته إلي آسيا نظر إلي السماء فسألوه لماذا؟ قال أبحث عن مكان آخر أغزوه؟ غرور. طيش شباب. والعقاد لم يلتفت إلي شيء آخر بيديه. لم ينظر إلينا. كأنه هدم الأوثان والأبطال جميعا داخل دنيانا من كل من نحب ونعجب به. ياأستاذ كأنك الجرجون ياأستاذ.. الجرجون الذي إذا نظر إلي شيء صار حجرا وإذا نظر للناس أوالنبات أوالحيوان كلهم يصيرون أحجارا. وهذا مافعله الاستاذ. قد مات كل شيء حولنا ولنا.. وكما أن الحيوان الجرجون لما ضاقوا به قدموا له مرآة. رأي نفسه فيها فصار حجرا أيضا.. ولابد أن نذهب إلي طه حسين ليحول هذه الصحاري القاحلة إلي شيئ حي جميل.. لايمكن أن يكون طه حسين قد أمات الدنيا وعاش علي جثث المفكرين والفلاسفة والأدباء..لايمكن إنها فكرتي أن نذهب إلي طه حسين نسأله نستهديه.. إنه عندما تحدث عن الشعر في العصر العباسي كان عاشقا يحب ما يقول. والذي لايعجبه يقوله بذوق بلطف، بينما العقاد يمسك فأسا تعلو علي كبيرنا ويقول إنه لا ينطق. طه حسين ليس عوليس الذي يبذر الأرض بالملح ويتوقع ان تنبت فالأرض لاتنبت بالملح.. وطه حسين لايميت أحدا ويمشي في جنازته.. وكنت أول المتكلمين. وقبل أن أنطلق قال طه حسين: أين أنت ياسيدي! وتلفت حولي فوجدته يكلمني أنا.. ويقول ياسيدي.. أريد أن أشرح لك كيف قالها الوجه باسم والرأس عال ويتجه إليك ويظل يبتسم ويقول: وحشتنا ياسيدي أين كنت ما الذي ومن الذي شغلك عنا..؟ أنه يسألني ويقول لي انني انشغلت بغيره عنه، ما هذا الادب ما هذه الرقة ثم انه استاذ عظيم لا يقلل منه ومن قدره أنه يقربنا منه أستاذا لطلبة وأبا لأبناء.. شيخا لحواريين. وجاء أحد الزملاء يتكلم.. فسبقته إلي الكلام: أستاذنا العظيم. إننا في محنة. إننا في حالة ضياع.. لقد ضاع منا كل شئ.. لقد أضاع وهدم وأباد وأعدم كل الدنيا.. قال طه حسين: من يكون هذا يا سيدي.. قلت: العقاد.. قال: هاها.. وماذا قال لكم العقاد؟ قلت وأطلت. و ضحك طه حسين قائلا: أسمع ياسيدي! الله .. الله علي الذي قاله طه حسين. لم يشتم العقاد وإنما قال لنا: إن العقاد عصبي، مزاجه حاد وشكواه من المصران الغليظ نتيجة لحالته العصبية. والعقاد لم يكن استاذا جامعيا حوله المئات من الطلبة.. وإن كان العقاد يحتقر الأستاذ الجامعي والجامعة. ولما قيل للعقاد انهم سيعطونه الدكتوراه الفخرية قال: ومن الذي يستطيع ان يمتحن العقاد.. والدكتوراه الفخرية ليس لها امتحان.. انها هدية من الجامعة أو من أية هيئة علمية. ولكنه لا يعرف. ولم يشأ أن يسأل فهو لا يري أحدا أعلم منه. ونحن في المجتمع اللغوي نناقش معاني الكلمات ودلالتها. وأذكر مناقشة بين العقاد ومنصور باشا فهمي عن الزمن والزمان والدهر والأبدية والسرمدية. ومنصور باشا فهمي رجل لطيف ومهذب ورقيق جدا. سأل عن الفرق بين الزمن والزمان. وانفجر العقاد ضاحكا ساخرا. إن الزمن كلمة ولكن الزمان أطول ولذلك يجب ان نجعل الألف تمتد إلي ما لا نهاية هاها.. هاها.. ولم يضحك أحد وغضب منصور باشا بصورة واضحة. ولم يحاول العقاد ترضيته أو الاعتذار له.. وحاولت ان اخفف من وقع هذه الصاعقة. فقلت لا فرق بين الزمان والزمن. كلها لحظات محسوبة. وهي اذا قورنت بالخلود والأبدية فهذه أطول وهذه اقصر. ولابد أن نعود في هذا الرأي إلي علماء الفيزياء هم الذين يقيمون الزمن. وهم الذين يقولون ما قاله آينشتين من أن الزمن هو البعد الرابع للطول والعرض والارتفاع ولسنا الذين نحكم في مثل هذه القضايا. وقال طه حسين: أنت يا سيدي أنيس من المعجبين جدا بالعقاد. تعلن ذلك كثيرا. فقلت: ولكني لا أستطيع يا أستاذ أن أهاجم العقاد وأرد عليه صعب نفسيا. ولكني أقول كما قلت يا أستاذ إنها لحظة عصيبة جعلته يطيح بكل ما ليس عباس العقاد.. وضحكة طه حسين أو ابتسامته هي التي فيها سخرية لطيفة مهذبة ويقول: ان فولتير كذلك وتحدث طه حسين عن العصر العباسي للشعر وتحدث عن المتنبي وأبي تمام. وأعاد المقارنة وقال: المتنبي كان كالعقاد في عصبيته.. ولم يقل إن أبا تمام كان هادئا راسخا كطه حسين.. وقال طه حسين: هذا موعد الغداء نلتقي غدا فغدا سوف يكون ممتعا. ولم نعرف السبب ولكن من الذي يرفض دعوة طه حسين. وكان صادق الوعد.. فاليوم يوم مشهود. كان طه حسين قد استضاف اندريه جيد الأديب العظيم الحائز علي جائزة نوبل. وقدمنا طه حسين لأندريه جيد الذي وقف وانحني تحية لنا. وقدم لنا أندريه جيد: إنه الأديب الفرنسي العظيم الذي أحب الشباب طوال حياته. وأحبه الشباب. هاها. وابتسم أندريه جيد. وكان طه حسين يشير بصراحة إلي أن أندريه عنده شذوذ جنسي يحب الشباب ويحبونه وأندريه جيد لا يخفي هذه الخصلة. وذكرها طه حسين. واسأنف طه حسين حوارا بينهما فقال طه حسين ردا علي ما كتبه بالأمس من أن الادب قد انتعش في ظل القياصرة وانحسر وانكسر في العصر السوفيتي، وهذا طبيعي. إنما ينبت الأدب والفن في الحرية. وفي كل عصور الانحطاط في أوربا كان الأديب والفنان مطرودا من رحمة الكنيسة والملكة. ولذلك ثار فولتير وسخر مونتيني، والذي قرأته في »ألف ليلة« هو خيال أطفال لايخلو من أدب و فن، وحلم بعالم افضل و أحسن، وعلي أساس هذا الخيال تطور الأدب وأصبحت »ألف ليلة« مثل الإلياذة والاوديسة مصدر الهام الأدباء والشعراء.. وخسارة ألا نقرأ »ألف ليلة« ونتوقف عند قصصها البديعة التي تصور عالما يحلم بعالم آخر.. وتخترع كائنات لا وجود لها. وإنما هو الخيال الذي أبدع وأثار الخيال في الأدب والفن والموسيقي. إننا لانعرف كم عدد الأعمال التي استوحت الجمال من »ألف ليلة« ولاعدد الذين استوحوا الإلياذة. وكان طه حسين قد أحس أنه ابتعد عن المشكلة التي جئنا من أجلها فسأل أندريه جيد: كيف تنظر إلي الشبان الذين هدمنا علي أدمغتهم كل عقائدهم ولم نعطهم بديلا من ذلك؟ قال أندريه جيد: كأنهم عراة.. كأننا ضحكنا عليهم. قلنا لهم اخلعوا ملابسكم فقد أعددنا لكم ملابس أخري. أواغتسلوا فلسنا في حاجة إلي طهارة الجسم والنفس.. هناك حكاية تروي في أحد كتب الشاعر جيته أن هناك كهفا للعبقرية. هذا الكهف يجب ان تدخله عاريا وهناك شرط للدخول، والشرط هو أن من يدخل كهف العبقرية يجب ان يترك عضوا من أعضائه: يده.. رجله.. عينه.. أذنه وقد دخل الكهف كثيرون ولكنهم لم يفقدوا عقولهم. فقد ذهبوا وعادوا يقولون لنا.لكن شرط العبقرية ان تفقد شيئا، ان تضحي بشئ، بعد ذلك كل شئ يهون من اجل العبقرية وقد هان علي العظماء كل شئ إلا العقل والخيال فليس شيئا عظيما أن يفقد الانسان عضوا من أجل ان يكون عبقريا.. ولا بد من أن يكون مكافأة عن أي قرار كبير.. فإذا جردنا الشباب من دينهم فلا بد ان نعطيهم بديلا وإلا استحالت الحياة والفلسفة. وكأنه أجاب عن كل ما أردنا أن نعرفه استرحنا إلي حد كبير فكل شئ قد قاله طه حسين في هدوء ولطف ورقة.. وكان لابد أن نعود إلي صالون العقاد!