علي مدي علاقتي به طالبا ومعيدا وحتي رحيله عام 5691، كان أستاذي وشيخي الراحل الجليل د. محمد مندور يشجعني علي حرية طرح تساؤلاتي عليه، سياسيا، واجتماعيا، وفكريا علي المستويين العام والخاص. ويوما سحقت مني القلب صورة عثرت عليها يعود تاريخها إلي الأربعينيات، تصوره واقفا خلف قضبان السجن، فأغرقتني في صدمة مفاجئة، إذ كنت وقتها في العشرين من العمر، فتزلزل كياني لرؤية أستاذي خلف قضبان السجن، وانحشر ادراكي في تيه مضيق لم أستوعب معه معني تحمل أعباء المسئولية السياسية دفاعا عن مصير الوطن، ولم يكن قد اكتسب ادراكي بعد من المعارف ما يؤهله لفهم مسارات قوي الصراع السياسي في الأربعينيات بكل اطاره وجبهاته وأدواته؛ لذا استمرت الصورة عصية علي الفهم والتصديق، لكن بدد أثرها النفسي اشراقات حاضر أستاذي المتألق وهو يباشر أنشطته نحو نشر المعرفة، ويفجر شعلة الوعي توهجا في مجالات متعددة، وكأنها تعلن استحالة أن ينال السجن من الإرادة الواعية لحدودها دفاعا عن المصير العام للوطن. صحيح أن الصورة ظلت تشكل لي رغبة عارمة في طرح سؤال: لم تعتبر السلطة أثما كل رأي لا توافق عليه، وإن كان لصالح جموع الناس، ولم تدين السلطة صاحب الرأي بوصفه مذنبا، فتحرمه استقلاله واستقراره، وتشهر به بسجنه حتي يصبح اثمه لدي الناس مؤكدا؟ لكن الصحيح كذلك أن الصورة تبدت لي احدي مطويات زمن مضي، وإن فتحتها أكون قد استحضرت لشيخي مرارات كئيبة مضت، لذا أخفيت الصورة ولم أعرضها عليه، وصارت خارج بوابة تساؤلاتي التي أباحها لي شيخي، ورحت أتلمس الاحاطة بمعارف زمن نضاله. كان شيخي الجليل من أبرز فرسان الطليعة الفكرية للنخبة المصرية منذ الأربعينيات، أعطي للثقافة دورها المعهود، وظل يلازمه انهمامه غير المحدود بقضايا وطنه دون أية قيود حتي زمن الرحيل؛ لذا لم أكن أترك لشيخي راحة من الحكي الحميم عن هذه النخبة، التي ناضلت من أجل الاستقلال والتحرر الوطني، وتحقيق العدل الاجتماعي، ومواجهة فساد الحكم، وهي القضايا التي دونها علي حد تعبير شيخي يصبح مطلب ممارسة الحرية مطلبا فارغا، في ظل هيمنة الاحتلال، ورق الفقر الذي ليس بعده رق، بما يثقل الناس بقدر لا يطاق من الخيبة والاحباط بإقصائهم عن حقوقهم؛ لذا كان شيخي يدافع عن الديمقراطية الاجتماعية التي ترفض الاقصاء الاجتماعي، بوصفه انتهاكا لمفهوم العدالة الاجتماعية، بنفيه تكافؤ الفرص، وتعميمه قيود الفقر، ولأن العدل الاجتماعي مطمح يتطلع إليه الناس ليحطم قيود الفقر العام؛ لذا يعد محكا للسياسة العامة للبلاد، ومن ثمة يتعين اكتساب الحقوق عن طريق التشريع الذي تصدره الأمة، لتصبح الدولة بوصفها أداة مسئولة عن تنفيذ إرادة الأمة، وليست أداة اضطهاد. ولأن شيخي كان يؤمن أن السيادة الحق تقوم علي الانصاف؛ لذا هاجم ما كتبه مراد باشا وهبة، في دعوته لكبار الأغنياء إلي التبرع لفتح مطاعم شعبية، تقدم للمعوزين وجبة طعام، انطلق شيخي من أن الاقتراح لا يحل التفاوت بين الناس، إذ الأساس لحل مشكلة الفقر هو العدالة التي تتجسد في سياسات التمكين لمختلف الأفراد، وذلك باستغلال مصادر قدراتنا، وتنمية انتاجنا العام. تعددت معارك شيخي ضد قوي النهب والاثراء التي حتمت الرق علي الناس، تعطيلا لحراكهم الاجتماعي، وفساد الساسة الذين باعوا الوطن، وفرضوا عليه عجزا مشئوما بتسترهم علي الفساد، ومصادرة الحريات، وقوي الاحتلال المهيمنة علي مقدرات البلاد، وتواطؤ السراي. تعرض شيخي للسجن مرات كثيرة، ورفض كل محاولات الاحتواء بالمكتسبات، ولم يقنع بالاستقرار؛ بل تخطاه بالنزول إلي الناس، متحديا كل آليات القمع، وظل أمينا لمبادئه حتي سقط متعبا عام 5691 بمرض ما قبل الرحيل. كنت أذهب إليه يوميا لزيارته، وفي احدي المرات سألني عن صحة قرار منعه من الحديث في الإذاعة، علي خلفية مقال انتقد فيه أداء مسرح التليفزيون، فرحت أحدثه عن حصانته الجماهيرية التي تدفع الناس إلي السؤال عنه حين يغيب، فرمقني بنظرة سرعان ما شردت نحو المجهول، ثم تخطينا موضوع الحديث. في اليوم التالي ذهبت إليه ومعي صورته وهو خلف القضبان، فأمسكها وأشرق وجهه بابتسامة غيرت وجه الدنيا، ورفع قبضته قائلا: والله زمان يا سلاحي، فعلقت مشاغبا: هل اشتقت إلي السجن، وعدم الاستقرار؟ فنظر إلي قائلا: »المحاربون قد يعودون إلي بيوتهم، وقد لا يعودون، فالمحارب قد يفقد الحياة، أو لا ينعم بالاستقرار، لكي يحقق لوطنه الحياة والاستقرار«. رحل شيخي، وتبقي ميراث نخبة الأربعينيات، نخبة الثوار لا المتمردين التي استهدفت تغيير الأفكار، وادخالها في سياق تاريخ مجتمعها، وكان رهانها أن يزدهر الوطن بالاقتدار علي الحاضر، والامتداد في المستقبل، وليس العودة إلي الوراء. وبالتأكيد ان ميراث هذه النخبة ليس ميراث الريح.