أقام الإسلام المساواة بين المسلمين وغير المسلمين في القضاء وفي سائر المعاملات، وقد سجل التاريخ نماذج رائدة لهذه المعاملات التي تعتبر قمة ما وصلت إليه المعاملات الإنسانية العادلة في تاريخ البشرية جمعاء. فعندما شكا رجل من اليهود علي بن ابي طالب للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال عمر لعلي: قم يا أبا الحسن فاجلس بجوار خصمك. فقام علي وجلس بجواره، ولكن بدت علي وجهه علامة التأثر، فبعد ان انتهي الفصل في القضية قال لعلي: أكرهت يا علي أن نسوي بينك وبين خصمك في مجلس القضاء؟ قال لا ولكني تألمت، لأنك ناديتني بكنيتي فلم تسو بيننا، ففي الكنية تعظيم، فخشيت ان يظن اليهود ان العدل ضاع بين المسلمين. وتتابعت وصايا رسول الله صلي الله عليه وسلم بأهل الذمة والمعاهدين حيث قال صلي الله عليه وسلم: »من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وان ريحها يوجد من مسيرة اربعين عاما«. وقال صلي الله عليه وسلم: »ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامه«. ومما يدل علي المساواة بين المسلمين وغيرهم في القضاء وعلي انتشار الإسلام بسماحته وحسن معاملة المسلمين لغير المسلمين، هذه الواقعة التي حدثت بين الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين رجل من أهل الكتاب، وذلك عندما فقد الإمام علي درعه، ثم وجدها عند هذا الرجل الكتابي، فجئ به إلي القاضي شريح قائلا: إنها درعي ولم أبع ولم أهب فسأل القاضي شريح الرجل الكتابي قائلا: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال الرجل: ما الدرع إلا درعي، ما أمير المؤمنين عندي بكاذب. فالتفت القاضي شريح إلي الإمام علي رضي الله عنه يسأله: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح ما لي بينة، فقضي بالدرع للرجل، وأخذها ومشي وأمير المؤمنين ينظر إليه، إلا أن الرجل لم يخط خطوات حتي عاد يقول: أما أنا فأشهد أن هذه احكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلي قاضيه فيقضي عليه؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الدع والله درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق إلي صفين فخرجت من بعيرك الأورق فقال الإمام علي رضي الله عنه: أما إذا أسلمت فهي لك. وهكذا نري كيف وصلت سماحة الإسلام إلي هذا المدي الذي يقف فيه أمير المؤمنين نفسه امام القاضي، مع رجل من أهل الكتاب، ومع أن أمير المؤمنين علي حق، فإن القاضي طالبه بالبينة، وهذا امر جعل أمير المؤمنين يضحك لانه علي حق، وليس معه بينة، وواضح انه المدعي، والبينة علي المدعي و اليمين علي من أنكر، ثم تكون النهاية: أن يحكم القاضي للرجل بالظاهر، حيث لم تظهر البينة، ان هذه المعاملة السمحة، التي لايفرق فيها بين أمير وواحد من الرعية من أهل الكتاب، جعلت الرجل يفكر في هذا الدين ويتملكه الإعجاب بهذا الدين، الذي يقف فيه أمير المؤمنين أمام قاضيه، ويحكم قاضيه عليه لا له، بظاهر ما أمامه وإن كان ذلك خلاف الواقع، فانطق الله الرجل أن يقول: اما أنا فأشهد ان هذه احكام انبياء.. وقال: أشهد ان لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ويعترف ويقر بالحقيقة قائلا: الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وانت منطلق إلي صفين فخرجت من بعيرك الاورق ولكنه وقد اعترف وأحب الإسلام ودخل فيه جعل أمير المؤمنين يتنازل عن الدرع للرجل قائلا: أما إذا أسلمت فهي لك. أنها صورة من صور القضاء في قمة عدالته، حيث يسوي بين هذا الرجل وبين أمير المؤمنين، وصورة سماحة الإسلام في ذروتها حيث كان الحكم بالظاهر وعلي أمير المؤمنين لا له، إن مثل هذه المعاملة السمحة مع غير المسلمين، هي التي قربت الإسلام إلي الناس، وجعلتهم يدخلون في دين الله افواجا. أما صور التعصب الممقوت التي يساء فيها إلي الإسلام، فإنها لاتدفع الناس إلي الدخول فيه، بل تدفعهم إلي النفور منه. ومن أجل هذا كان القرآن الكريم يجلي هذه الحقيقة: »لا إكراه في الدين« وأيضا لاحرج فيه ولامشقة: »وما جعل عليكم في الدين من حرج« إنه دعوة إلي اليسر والتسامح لا إلي العسر والغلظة: »يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر«