صحيح ان التطلع إلي تحقيق العدالة بوصفها الرهان الأساسي لكل شعوب العالم، هي المرجعية التي يرتكز عليها الدستور الضمني للشعوب، ليس لأن العدالة هي الأفضل، ولكن لأن العدالة ضرورة، ولابد أن تكتسب صفة الحقيقة المتداولة في واقع الشأن العام والخاص للناس، وأن تشكل عقداً ينظم منهج علاقتهم في إدارة السلطة، ومصادر الثروة، وتوليدها، وتوزيعها، حيث يشحذ هذا المنهج الخيار الاجتماعي في تنمية شاملة مستدامة، تزيل كل أشكال افتقاد الحقوق لأفراد المجتمع، بتفعيل سياسات التمكين وإجراءاتها التي في ظلها تزدهر حياة الناس، دون إقصاء أو استبعاد لفئة، وصحيح أيضاً أن العدالة هي جوهر الديمقراطية، إذ بمبادئها، ونظمها، وآليات مؤسساتها في المراقبة والمساءلة، تلاحق بالإنصاف والاستحقاق كل استنقاص لأشكال الحقوق جميعاً، التي قد يكون سببها اختلال التوازن بين المشاعر والإدراك، حيث تتسيد دوائر المشاعر الذاتية، وتنغلق علي الأنانية والجشع والاستحواذ، بما ينفي إدراك حقوق الآخرين، فتشكل حالة عماء عن إدراك وضوح العدالة هدفاً ضرورياً لقوام العالم، لذا تتصدي الديمقراطية لاستباحة حقوق الآخرين بامتداداتها المتنوعة، لتتجلي عوائدها ومردوداتها مناخاً عاماً، وسلطاناً مرجعياً يضبط ممارسات مؤسسات المجتمع وأفراده في مواجهة أي تحكم واستحواذ لفرد أو فئة، لكن الصحيح أيضاً أن الديمقراطية ليست مجرد الوعي بالحقوق، ولكنها مشروطة بالقدرة علي تحويل الحقوق إلي حقيقة مجسدة، فاعلة بالنسبة الي الجميع، أي أن تصبح الحقوق سلطة تفرض حضورها المشروع، وهي لا تصبح كذلك إلا حين تكون في حماية الوعي بضرورة المسئولية العامة، الملتحمة بالحضور الدائم لعزم المواطنين النشط علي ممارسة الاضطلاع بمسئوليتهم العامة، حماية لحقوقهم، وكسراً للوصاية والاستقطاب، ودون ذلك تتراجع الديمقراطية، وتعجز عن الوجود، انطلاقاً من حقيقة أن اللامبالاة تعد أخطر أعداء الديمقراطية. لا شك أن بعض الديمقراطيات قد تعاني نكوصاً يفقدها مشروعيتها، وقد يتبدي ذلك واضحاً في الرواية المتخيلة التي تكشف عن معضلة إحدي الدول، حين أجرت الانتخابات العامة برسم الديمقراطية، وبعد انتهاء فرز الأصوات تجلت حقيقة المعضلة الكبري المفاجئة، إذ تبين أن 78٪ من أصوات الناخبين جاءت أوراقهم الانتخابية بيضاء فارغة، أما الأصوات الباقية التي نسبتها 31٪ فقد قسمت بالتساوي بين الأحزاب المسيطرة، اليمينية، والمعتدلة، واليسارية. إن خطاب هذه المعضلة معقود علي معني وحيد، مفاده بطلان الانتخابات، حيث لا ينقص هذا المعني إقرار المشيئة العامة، كما لا يعوزه اليقين. ويتبدي جلياً ما تكشف عنه دلالات تلك المعضلة، ذلك أن الحقوق الديمقراطية لأصوات الأغلبية الكاسحة للناخبين، كانت محصنة بوعيهم، محمية بضمائرهم، ولم تكن قابلة للتفريط، أو مطروحة للمزايدة، بل مقرونة بالمسئولية العامة التي مدارها خارج دائرة المصالح الخاصة لفرد أو فئة، لذا فإن الأغلبية بسلاح حقوقها، واجهت نتائج سياسات، وقرارات، وتجاوزات، ومناورات سلطة تحولت تسلطاً نافذاً، وفقاً لحسابات مصالح أقلية مسيطرة علي مصائر الناس وأقدارهم، حولت الديمقراطية إلي نظام تسلط شمولي لا أساس لشرعيته، أفقد الديمقراطية جوهرها بإنكاره العدالة، واستلابه الأغلبية وجودها، وابتلاع حقوقها بممارسات آليات إخفاء المقاصد، كالنفوذ الخفي، والمناورة، والخداع، وصناعة الخطابات الزائفة المتشدقة بالديمقراطية، والتلاعب بالإعلام، واستدراجه للترويج لصور مغلوطة، مفارقة للحقيقة اليقينية القائمة. لقد تجاهل المسئولون الحكوميون البحث عن تفسير لما حدث، إذ انكشفت تضليلاتهم، لكنهم راحوا مع بعض زعماء الأحزاب يبحثون عن هؤلاء الذين تجرأوا علي تحدي شرعية النظام، بل التخطيط لأفضل معاقبة للشعب وترويعه. وصف رئيس الجمهورية ما حدث أنه بمثابة إطلاق طوربيد تحت خط الماء ضد سفينة الديمقراطية المهيبة. تري هل إقصاء الأغلبية الكاسحة بالألاعيب الخافية، ينتج مجتمعاً أو برلماناً ديمقراطياً شرعياً حقيقياً؟ صحيح ان الكاتب البرتغالي »سارا ماجو« في روايته »بعد نظر« قد واجه الاستبعاد الإقصائي للأغلبية وحقوقها، بأن طرح بديلاً تبدي في قيام الأغلبية بالاستبعاد الذاتي الطوعي لنفسها، ليس امتثالاً، بل تعرية وفضحاً للفساد الناخر في كيان النظام الحاكم، وصحيح ان البعض يري أن ذلك يعد نوعاً فارغاً من الاحتجاج الصامت، مشحوناً بمعاني تنذر بالسوء، لكن الصحيح كذلك أن رهان الكاتب هو الكشف عن ثقل الوزن السياسي للأغلبية الكاسحة، الذي يجب أن يحظي دوماً بالأولوية المطلقة، وقد ينتفي ذلك الرهان حين تصاب الأغلبية باللامبالاة تجاه ممارسة حقوقهها، ومسئوليتها العامة، وذلك ما يشكل أخطر أعداء الديمقراطية.