الله أكبر.. النصر أو الشهادة.. كانت صيحة المقاتلين في حرب أكتوبر، هم رجال من عاش منهم بعدها، عرف طعم النصر، أما من كتبت له الشهادة فيها، فقد نال شرفين وذاق حلاوتين هما: الانتصار والشهادة.. نعم.. أن شهداء الوطن أحياء عند ربهم يرزقون، سطروا بدمائهم الزكية بطولات لن تنطفئ من ذاكرة الوطن ولن يطويها النسيان، لأنها محفورة في سجلات الاستشهاد. وفي السطور التالية، تقدم »أخبار اليوم« شهادات حية من تلك السجلات لأعظم رجال قدموا للوطن أغلي ما يملكون.. أرواحهم.. المشير أحمد اسماعيل وزير الحربية أثناء العبور العظيم وحرب أكتوبر.. قالت عنه مجلة الجيش الأمريكي انه أعظم من روميل القائد الحربي الألماني الفذ، وأنه أكثر دهاء من مونتجمري الجنرال البريطاني، وأنه واحد من بين 05 قائدا عسكريا غيروا من استراتيجيات وتكتيكات المعارك الحربية علي مر التاريخ. لقبوه باسم »القائد الذهبي« لأنه تحمل المسئولية وقاد جيشا تعرض لنكسة صعبة، ليصبح جيشا منتصرا بامكانيات غاية في البساطة.. وقد أبكي قادة إسرائيل لحد الصراخ وحطم غرور جيشها. حقق أكبر انتصار لقائد حربي مصري منذ عهد أحمس، لكنه كان شديد التواضع.. ومن فرطه كان يرجع الانتصار للجندي المصري ولرجاله.. هكذا دائما يكون القائد العظيم.. أول من يكون في الصدارة عند الخطر.. وآخر من يحصل علي الغنائم. »أخبار اليوم« زارت منزل المشير والتقت بالسيدة سماح الشلقاني حرمه، وابنه السفير محمد اسماعيل الذي ورث عن والده المشير أحمد اسماعيل وزير الحربية الأسبق الكثير، ليس فقط الشبه الكبير جدا في الملامح، بل أيضا الدقة والصراحة والوضوح، التقينا مرتين فإذا بي أشعر كأننا أصدقاء منذ سنوات. في المرة الأولي كنا في مكان عام، وفي اليوم التالي التقينا في منزل الأسرة، أو »بيت العيلة« بعد أن نقلت له رغبتي في مصافحة والدته السيدة سماح الشلقاني زوجة القائد العظيم التي لم تخلع ثيابها السوداء حدادا عليه منذ 73 عاما!! وللوهلة الأولي عند دخول بيت هذا الراحل العظيم بمصر الجديدة، يغمرك احساس عميق بالراحة والأمان والاطمئنان، منزل بسيط للغاية لكنك تريد أن ترفع لكل ركن فيه »تعظيم سلام«.. فهنا في ركن غرفة المكتب وأمام مكتبته القديمة وضعت الأفكار الأولي لخطة العبور، كما وضعت اللمسات الأخيرة فيها أيضا، حجرة المكتب هذه.. كانت صومعة أحمد اسماعيل التي ذاكر فيها كل تفصيلة.. كل كبيرة وصغيرة عن خطة الحرب في سيناء التي خدم فيها 51 عاما ويعرف كل جبل ومدق فيها ويحفظها عن ظهر قلب كأنها كف يده. والمشير أحمد اسماعيل.. كان مصريا مائة في المائة، في ذكائه وسرعة خاطره وخفة دمه وحبه للنكتة المصرية.. وكان فلاحا مصريا في وفائه واخلاصه واعتزازه بأرضه، وكان فارسا مصريا في استعداده لمساعدة الضعيف، واسناد انتصاراته لغيره، واصراره علي أن يسلط الأضواء علي الذين اشتركوا معه في صنع المعجزة. هكذا نعي الكاتب الكبير علي أمين هذا القائد الأسطوري عقب وفاته في ديسمبر 4791 بعموده الشهير »فكرة«.. فلماذا قال ذلك؟ ولماذا قالت عنه مجلة »التايمز« البريطانية أن أحمد اسماعيل علي هو الرجل الذي خطط لعبور الجيش المصري قناة السويس في أكتوبر 3791 بسرية تامة، وأوقع إسرائيل في الفخ بصورة مفاجئة!! والأهم.. هو ماذا صنع المشير أحمد اسماعيل في الجيش المصري بعد توليه المسئولية في 62 أكتوبر 2791 أي قبل عام واحد فقط من حرب أكتوبر!! لكي نعرف ماذا صنع اسماعيل.. لابد أن نبحث كيف كانت حالة القيادة العامة للجيش المصري، نعم كانت هناك تدريبات تجري علي مستوي الوحدات، كانت هناك نجاحات في بعض الأفرع والهيئات العسكرية، كان هناك تصميم علي رد الكرامة، لكن الصورة كانت قاتمة عند قيادات الجيش العليا، ولم تكن هناك نية أو إرادة لدخول الحرب بامكانيات الجيش مع تعويض الفارق الرهيب بين الجيشين المصري والإسرائيلي بالتدريب لحد التفاني. الإجابة تأتينا علي لسان حافظ اسماعيل مستشار الأمن القومي للرئيس السادات في كتابه »أمن مصر القومي في عصر التحديات« قائلا: »تبين للرئيس يقصد الرئيس السادات أن توجيهاته للفريق صادق حول الإعداد العسكري، لم يكن قد أبلغها لبعض مرؤسيه، فلم تكتمل الترتيبات الدفاعية، كما لم تكن القوات المسلحة في وضع يمكنها من القيام بعمليات هجومية.. وعلي هذا ففي 62 أكتوبر (2791) أبلغ الفريق صادق بقبول الرئيس لاستقالته«.. وفي مساء نفس اليوم والكلام مازال لمستشار الأمن القومي جرت مراسم تعيين أحمد اسماعيل علي وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة. ويواصل حافظ اسماعيل الذي لعب دورا خطيرا ومهما في حماية الأمن القومي المصري بتلك الفترة قائلا: لقد عرفت الفريق (وقتها) اسماعيل منذ كان طالبا بكلية أركان الحرب (بعد الكلية الحربية) حيث اكتسب تقدير هيئة التدريس لما لمسوه فيه من حسن تقدير للمواقف وترتيب مواجهتها، مما رشحه لأن يكون علي رأس زملائه عن استحقاق.. وفي الأعوام التالية أصبحت للفريق اسماعيل خبرات ميدانية مهمة، انتهت بقيادته لقوات جبهة السويس عام 7691، إلي أن عين رئيسا لهيئة أركان الحرب، فقد كان الفريق اسماعيل جنديا من قمة رأسه حتي اخمص قدمه، الأمر الذي أكسبه ثقة الرئيس (يقصد السادات) وأعاد الاستقرار إلي علاقات القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية. مقابلة بالصدفة لم يكن الرئيس أنور السادات أو مستشاره للأمن القومي حافظ اسماعيل وحدهما من يعرف قدر وقدرات أحمد اسماعيل وقدرته علي ايقاظ المارد في الجندي المصري، بل ان قائدا عسكريا آخر عظيما من أبناء هذا الجيل كان له نفس الرأي هو المشير محمد عبدالغني الجمسي. يقول الجمسي في مذكراته عن حرب أكتوبر وكيفية الإعداد لها: في النصف الأول من عام 2791 تقابلت مصادفة مع اللواء أحمد اسماعيل مدير المخابرات العامة حينئذ في مطار القاهرة الدولي، كان كل منا يودع أحد الرسميين الأجانب، وأثناء خروجنا معا من المطار، وكنا نسير وحدنا، بادرني اللواء أحمد اسماعيل بسؤال مباشر وبصوت منخفض هامسا قائلا: »متي ستحاربون ياجمسي؟«، وكان ردي سنحارب عندما تتعين أنت وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة، وستعلم حينئذ لماذا لم نحارب حتي الآن!! هذه شهادة مكتوبة من المشير الجمسي بعد رحيل قائده العام بسنوات طويلة، ولكن الأخطر من كل ذلك جاء في المحضر السري لاجتماع المجلس الأعلي للقوات المسلحة، يوم 42 أكتوبر 2791 قبل عام تقريبا من حرب أكتوبر، وقبل يومين فقط من تعيين أحمد اسماعيل علي وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة. كان اجتماعا عاصفا اتخذ الرئيس السادات بعده مباشرة قرارات خطيرة بإقالة 3 قيادات عسكرية مهمة، هم: الفريق صادق وزير الحربية، واللواء عبدالقادر حسن مساعد وزير الحربية، واللواء محمود علي فهمي قائد قوات البحرية، بعدما اتضح أنهم لا يريدون الحرب وقد وقر في داخل نفوسهم أن إسرائيل ستنتصر في أي مواجهة عسكرية مع مصر خاصة عقب النكسة! ولقصة اختيار أحمد اسماعيل وزيرا للحربية تفاصيل مثيرة، أهمها حرصه علي تماسك الجيش المصري وعدم تعرضه لضربة قاصمة شبيهة لما حدث في 7691، ولذلك لم يأخذ بفكرة المغامرة التي تصل لحد المقامرة في القيام بعملية حربية شاملة، يتم خلالها الاستيلاء علي سيناء كاملة لأن امكانيات التسليح في الجيش المصري وقتها لم تكن تسمح بهذا، وبالتالي كان مهتما بسلامة الجيش وعدم تكبد خسائر ضخمة أثناء العبور حتي يستطيع تحرير سيناء ولكن علي مراحل. المثير أن حرب أكتوبر اندلعت يوم 6 أكتوبر 3791 واستمرت مستعرة حتي يوم 22 أكتوبر 3791 لمدة 71 يوما كاملة ليل نهار إلي أن توقف القتال في الساعة السادسة والدقيقة 25 مساء يوم الاثنين 22 أكتوبر بناء علي قرار لمجس الأمن بإجماع الآراء، عدا الصين التي امتنعت عن التصويت، واستجابة الأطراف المتحاربة لقرار مجلس الأمن. ولكن أثنائها كما يقول السفير محمد اسماعيل وبالتحديد يوم 41 أكتوبر تصادف مرور 65 سنة علي ميلاد الفريق أول وقتها أحمد اسماعيل، وتصادف أيضا أن يشهد هذا اليوم واحدة من أعنف وأطول وأعقد معارك الطيران التي شهدتها الحروب في العالم، المعروفة باسم معركة المنصورة الجوية، لأنها دارت فوق المدينة الباسلة واستمرت 35 دقيقة وهو زمن قياسي طويل جدا بالنسبة لمعارك الطيران التي لا تستمر سوي دقائق معدودة، وحدثت مواجهة في ذلك اليوم بين 001 طائرة إسرائيلية من الفانتوم والسكاي هوك وبين 08 طائرة مصرية ميج 12 وسيخوي كان من نتيجتها إسقاط 44 طائرة إسرائيلية، بينما كانت تجري علي أرض سيناء معارك بالدبابات أدت إلي تدمير 051 دبابة ومدرعة إسرائيلية، وكان هذا أحسن احتفال بعيد ميلاد والدي الذي قضاه في غرفة العمليات الحربية الرئيسية بجوار الرئيس السادات وقادة الجيش. وفوق صفاته وقدراته وكفاءته العسكرية كان المشير أحمد اسماعيل مشهورا بالنزاهة وخفة الظل عندما تسمح المواقف باضفاء البسمات، وكما تقول السيدة سماح الشلقاني حرمه: كان المشير أحمد اسماعيل منشغلا دائما، جهده ووقته كله للقوات المسلحة، بينما ترك لي مسئولية البيت والأولاد، وكثيرا ما كان الأهل والأقارب يسألون عنه خاصة في المناسبات الاجتماعية وكانوا يسألونه عن ذلك في المرات القليلة التي تسمح بها ظروفه، فكان يرد عليهم مبتسما: »أنا عند مدام شغل« في اشارة إلي أنه تزوج أيضا عمله الذي أحبه وأفني حياته فيه. ويعبر السفير محمد اسماعيل عن نزاهة المشير أحمد اسماعيل قائلا: كنت شغوفا بالحياة العسكرية، وتمنيت الانخراط فيها، وقررت التقدم للكلية الحربية عقب حصولي علي الثانوية العامة، وكان والدي وقتها كبيرا لمعلمي الكلية الحربية، ولكن عدم نجاحي في كشف النظر أخرجني من طابور المقبولين في الكلية، ورغم حزني الشديد لعدم قبولي، إلا أنني لم أجرؤ حتي علي التلميح لوالدي بالتدخل، لأنه كان سيرفض بالقطع، وهو ما تربينا عليه وبالتالي لم أسمح لنفسي بمجرد التفكير في ذلك رغم ولعي الشديد بالحياة العسكرية.. لقد كان رحمه الله قائد عظيم لجيش عظيم.