الحب كالثورة ينضج هادئا أو يأتي مفاجئا، ومثلها أيضا ينتهي بألم عظيم أو فرح عميم، وفي الحالتين يظل رومانسيا، ويحفر في الذاكرة ثلوما لا تشفي ولا تنسي. وكما للثورة وجهها الحزين المتمثل بشهداء ودم وفراق، فنلحب وجهه القاتم أيضا، وهذا ما يعرفه جيدا جميع العشاق ويسجله وبالتفاصيل نيابة عنهم الروائي رفيق شامي صاحب رواية »الجانب المظلم للحب« The dark side of love وهي رواية مكتوبة بالألمانية أصلا ومترجمة للانجليزية بعد دخولها لائحة صحيفة »الاندبندنت« لأفضل رواية أجنبية لكنها وبكل أسف لم تصل للقاريء العربي بعد فإيقاع حركة الترجمة كالاصلاحات السياسية في العالم العربي سلحفائي الهوي والتنفيذ. تبدأ الرواية من زمن الانقلابات في دمشق الاربعينيات، ومن جثة مغلقة علي باب توما في أيام انقلاب حافظ الأسد علي صلاح جديد واطلاق يد أخيه للبطش برجال الدولة وأجهزتها لاننا سنكتشف وبعد لقطات »فلاش باك« عديدة تعود بنا إلي أيام انقلاب حسني الزعيم ثم الشيشكلي أن الجثة المعلقة مكان رأس القديس يوحنا هي لضابط مخابرات صفاه رجال الأسد بعد أن صادروا منه لائحة بأسماء ضباط ينوون الانقلاب عليهم لتخليص البلد منهم. ولا يستخدم الروائي وهو ألماني من أصل سوري الاسماء الحقيقية للانقلابيين لكنك كقاريء لتاريخ سوريا السياسي تفهمها من السياق، فالفصل الأول بأحداثه التي فتحت الطريق لأنهار من الدم في سوريا ما تزال مستمرة إلي اليوم يقع تاريخيا في خريف عام 0791 وانقلاب حافظ أسد علي صلاح جديد ورفاقه. كما هو معروف في السادس عشر من نوفمبر الثاني من العام ذاته. ولأنهم »الانقلابيون« جميعا يشبهون بعضهم بعضا كأنهم أتوا من رحم واحد وتخرجوا من مدرسة واحدة يطلق عليهم المؤلف المكلوم بالحب والسياسة اسماء متناغمة ساجعة علي غرار بدران وعفصان وضرطان وفلتان، ولا يشذ في التسمية عنهم غير ضابط المخابرات القتيل المعلق في سلة علي باب توما المقدم مهدي سعيد. ومن الانقلابات السياسية للتهتك الاجتماعي في سوريا القرن الماضي يحفر المؤلف عميقا في طفولة بطله الحزينة ليعرفنا من خلال تاريخ قرية مسيحية ذات طائفتين كاثوليكية وارثوذكسية علي عذابات مواطن من ذلك الزمان وكل زمان، فلا شيء يعذب في ذكريات الحب والثورة مثل لحظات يقف الزمن عندها متباطئا ليجمدها وتخزنها الذاكرة دوما في أعلي ملف لتستحضرها حزنا أو فرحا. ولعل العشاق جميعا والثوار أيضا الذين يندفعون للثورات علي انها فعل محبة يفتح أفقا اجمل للبشرية يعرفون تصاريف الزمن وقدرته علي تحريك المواجع القديمة.. »وآه يا زمن« فالقبلة مجرد قبلة، والبسمة مجرد ابتسامة اذا مر الزمن وتحرك، أما ان جمد واحيانا يفعلها الزمن ويتجمد، وعندها الويل لك من تلك اللحظة التي توقفت عندها عقارب الساعة، فمن المؤكد أنه كان يعرف ان الزمن يلسع ويلدغ ذاك الذي اطلق علي مؤشر الساعات اسم العقارب. من طفولة البطل الذي لا يحبه أبوه، وبكل ما في تلك الطفولة من مواجع وذكريات ما بين القرية ودمشق يمر التاريخ السياسي السوري في لقطات متباعدة من خلال قري ترسخت عداواتها من أيام الحروب الصليبية والحشاشين، ومما يجري من فضائح ودسائس في العاصمة دمشق التي اصبح البطل قطبها الخفي من خلال معمل »شوكليت« وحلويات تحتاجه الدولة والنافذون فيها ورجال اعمالها لترتيب الحفلات التي تتم فيها الصفقات الكبري بما فيها بيع الوطن والمواطن بأبخس الأسعار. وفي هذه الأيام التي يجري فيها الدم السوري في كل مكان بأسلحة جيش الدولة ومخابراتها نفهم لماذا اختار المؤلف أن يبدأ روايته من عصر الانقلابات السورية بكل ما فيه من خزي أوصلنا إلي هذه المرحلة، فحسني الزعيم الذي سلم الدولة لعديله يفعل بها ما يشاء لم يكن يفيق من الخمر، وليلة القبض عليه من قبل الشيشكلي كان مخمورا وشبه عار، أما الثاني وهو ليس أفضل منه فقد اسال دما كثيرا إلي درجة ان فئة من الذين تقصدهم بالعنف لاحقته بعد الانقلاب عليه، كما لاحق ستالين تروتسكي وقتلته مثله في أمريكا اللاتينية. ويوم أتي البعثيون في اذار احضروا امين الحافظ من الارجنتين، فأتاهم وتبعه من هناك الجاسوس ايلي كوهين الذي سرب كل الاسرار العسكرية لذاك الزمان لاسرائيل قبل ان يتم القبض عليه، ويعدم بعد اختراق مؤسسات أمنية وعسكرية ظلت مخترقة أجنبيا وطائفيا وعصاباتيا إلي أن ظهر »عصر الشبيحة« الذين تشكلوا في عهد حافظ الاسد ومن داخل عائلته علي يد نمير وفواز الأسد. وبتلك التشكيلات المخابراتية والمافيوية ظل الهم الوطني اخر هموم الاجهزة التي نفهم من سجلاتها الكارثية الحافلة متأخرين كيف امتلكت تلك الجرأة علي قتل البشر بالألوف وكأنهم اسراب عصافير وليس بشرا من لحم ودم، وتجرأت علي اعتقال الناس بمئات الألوف لمجرد مطالبتهم بالحرية والكرامة. من تلك الأيام زرعوا بذرة الخراب التي نحصد ثمارها المر، وحرضوا الاخ علي اخيه والمرأة علي زوجها، والابن علي ابيه ليزرعوا الشك في كل بيت مستنيرين بحكمة المستعمر »فرق تسد« وان كان من فضل للمؤلف، وهذا سر نجاح روايته عالميا، فهو تلك القدرة علي ربط السياسي بالاجتماعي بالانساني في خيط واحد. وقبل ان تسأل لماذا نحكي عن الحب الآن؟ وماذا تعني قصة حب من سوريا وسط هذا الرعب، والدماء؟ دعني اخبرك ان العالم لم ينهض والمجتمعات لم تعد بناء دمارها بعد كل جولة خراب إلا بالحب، ليس حب الذكر للانثي، فحسب بل حب الشجر، والعصافير، والماء، ومتعة أن تكون إنسانا لا يتحكم بك مخبر تافه أو جندي حقير، وان تنهض حرا كريما فتشرق الشمس وتأتي لتقبل جبينك وتفكر بالقراءة علي الضفاف البعيدة، فتهدر المطابع بالكتب وتسيل الانهار لتنشر العذوبة علي الضفتين. الحب في زمن الحروب والثورات الحصان الرابح الوحيد والفكرة الفارسة القادرة علي قهر اليأس والقنوط والاحباط الكوني الفظيع ففي الثورة والثورات حب للمستقبل ليس لك إلا ان تحب فحبك شارة النصر التي لا يستطيع ان يدمرها مدفع ولا ان تضع حدا لها قنبلة طائشة. الثورة حب، والحب ينتصر دوما في مخيلة المحبين دوما وواقعهم أغلب الأحيان، ومن هنا تنبع قدة العشاق والثوار علي تحمل التضحيات والألم.