نتيجة للظروف الخاصة بمصر بدأ الإنسان علي ضفتي النيل مغامرته الروحية الكبري، التأمل الطويل بعد بذر الحبوب ومتابعة نموها أدي به إلي اكتشاف وجود الخالق سبحانه وتعالي، أدرك أن هذا الشروق لا يتم عبثاً، كذلك الغروب، لابد أن قوة خفية تحرك هذا كله، أما الحياة رغم قصرها فليست إلا مرحلة يعقبها انتقال إلي الأبدية، إلي اللانهائي، هكذا عرفت الإنسانية الأبدية، الحياة الأخري، الآخرة.. ذات ظهيرة، زمن طفولتي، أجلس إلي أمي فوق سطح المنزل بالقاهرة القديمة، الزمن شتوي، نتلمس الدفء من أشعة الشمس التي تنفذ من بين فرجات الغيوم فتمتد في زوايا مائلة، متجهة باستقامة إلي الأرض، هرم من الضوء هابط من الفراغات العُلي. أهذا ما يمكن أن نعتبره أصل ذلك الشكل الهندسي العبقري، الهرم، المثلث، اختزال الاختزال، هذا الهرم الضوئي يتكرر ظهوره، نزوله من السموات العُلي بدءاً من الخريف وحتي انتهاء الشتاء، أحاول رؤيته بعيني المصري القديم في الوادي، لم تكن المدن مزدحمة كما هي الآن، زحام يبتلع النجوم والشمس والقمر، كانت السماء أقرب إلي ما نراه في الريف القصي الآن القائم علي الحافة، عند حدود الصحراء، في الخريف المصري يرق الطقس ويشف، إنه ربيعنا الحقيقي، فزمن الربيع تهب فيه »الخماسين« تلك الرياح الناعمة، القادمة من الصحراء، لكن الخريف هادئ الرياح، لا أتربة فيه، تتوالي الألوان علي السماء، ومع قرب الشتاء تظهر الغيوم، تنفذ أهرامات الضوء من الأعالي. دائماً أحاول رؤية الأشياء بعيني الإنسان في زمن لم أعرفه، لم أسع فيه، لكن، عند أي زمن أتوقف؟ أهو الوقت الذي كان الإنسان يحاول فيه مصارعة الطبيعة، أي فيضان النهر وما ينتج عنه من غمر ودمار ثم حياة؟ أهو العصر الذي بدأ الإنسان فيه يتأمل ويري الصراع بين قوي الدمار وقوي البناء، هكذا توفرت اللبنة الأولي لقصة الصراع بين إله الخير والزرع والنماء »أوزير« وإله الشر »ست«؟ أهو العصر الذي بدأ الإنسان يرصد فيه دورة الفلك؟ يلحظ تلخيص مراحل الحياة في رحلة الشمس، بدءاً من ميلادها، إلي غيابها؟ ثم اجتهاده لتخيل الساعات الاثنتي عشرة لرحلة الشمس غير المرئية؟ أي عصر؟ الحقيقة أنني لفي حيرة، غير أنني أتساءل: لماذا أحاول إيجاد التناقض بين هذا كله؟.. إنها مراحل، يفضي كل منها إلي الآخر، اكتشاف الزراعة أتاح الفرصة للتأمل، الهادي، العميق، ومن هذا التأمل العميق بدأ التكوين الروحي للبشرية، اكتمال الرؤية الأساسية التي أعتبر كل ما تلاها من معتقدات مجرد نسخ للأسف الأول، في وقت ما أدرك البشر المتأملون، المنتظرون نمو الزرع أو نزول النقطة الأولي في فيضان النهر، أدركوا صلة وجودهم المحدود باللامحدود، وبالكون الفسيح، بالسماء اللانهائية، بحركة الأفلاك، صلة هذا كله بحياة الفرد المحصورة بين قوسين، الميلاد والموت، إنها نفس دورة الشمس، مصدر الحرارة والحياة، إنها نفس دورة النهر الذي تنزل فيه أول نقطة ماء إيذاناً بالفيضان الذي يصل شيئاً فشيئاً، لا يجئ بغتة، لا يصل مرة واحدة، إنما يبدأ بنقطة ماء، ومن هذه النقطة يبدأ النهر والبحر ومحيطات الدنيا. إنه التدرج، التغير المتمهل، مع التدرج يكون الارتقاء، هذا ما انعكس علي البنيان، يصعد الهرم إلي أعلي شيئاً فشيئاً، يبدأ من سطح الأرض، ثم يتوالي التدرج صوب نقطة تلتقي عندها جميع الزوايا، وسائر العناصر، عند بلوغها يكتمل البناء، يكتمل الشكل، ويكون الفناء أيضاً، النهاية، عند ذروة الهرم، تلك النقطة حيث اللاشيء، يوجد كل شيء، تماماً مثل نقطة الماء الأولي التي تحوي النهر كله، الفيضان كله، بدون النقطة لا يكون النهر ولا البحر وبدونهما لن تكون النقطة. إنه التدرج، تأمله البشر في بزوغ الشمس المتمهل في بدايته، المتسارع، المستقر ظاهرياً عند بداية الأفق، حتي ليظن المرء أنه سيدوم هكذا أبداً، لكن حركة الظل تنبئ بحركة الكون، من هنا جاءت فكرة المسلة، إنها إشارة من الحجر إلي أعلي، إلي المركز، السماء دائرية، ولكل دائرة مركز، الدائرة أدق تعبير عن الكون، لأنه شكل مكتمل، لا بداية له ولا نهاية، يمكن دخوله من أي نقطة، كما أنه يعني البداية والنهاية، معاً، فأي نقطة يمكن أن تكون بداية ونهاية معاً، إنها الحياة، إنه الوقت، في اللحظة نفسها يصير وصولاً ورحيلاً، الدائرة رمز للبداية والنهاية، موجودة في الرموز المصرية القديمة، في اللغة في مفردات الأبجدية، عند واجهات المعابد، منها ينطلق الجناحان المحلقان، تحيطها يدان فهي القوة المحركة، مصدر الحركة الخفي وراء دورة الأفلاك، الدائرة عنصر أساسي في الزخارف المصرية، قبطية أو إسلامية أو يهودية، في المساجد المصرية المملوكية خاصة التي عادت فيها الثقافة إلي جذورها البعيدة مع الاستقرار والإبداع، أري الشمس بنفس اللون الأحمر الحرانيتي، المصدر واحد، الصخور والأحجار هي، هي، والرمز يسفر في عصر، ويتحول إلي شفرة في زمن آخر، تطالعني الدائرة في قبة السلطان حسن »القرن الثالث عشر الميلادي«، في مدرسة وخانقاه برقوق، في المساجد والكنائس والمعابد سنجد الدائرة، وما تتضمنه من إشارة إلي الكون. المسلة إشارة إلي المركز، مركز الدائرة إشارة إلي القوي الخفية المحركة، إنها المرجعية المعمارية والفنية لبرج الكنيسة وللمئذنة، في صعودها إلي أعلي تتحول إلي هريم ينتهي أيضاً بنقطة، كل شيء يصير إلي تلاشي، إلي الأبدية ليعود مرة أخري، شروق، غروب، فيضان يبدأ بنقطة ويصير إلي جفاف. التدرج الدافق المنبئ بالحركة، بالزيادة التي ستصير إلي نقصان، أحد أهم معالم الرؤية المصرية، ما من شيء مثل العمارة تودع فيه الذاكرة، في البداية تكون الاستجابة لعوامل البيئة والمناخ، ثم تضفي الرؤية الروحية والفكرية مضامينها،كل المعابد المصرية لا يتم الوصول إليها فجأة، إنما عبر ارتقاء متمهل علي درج عريض غير محسوس، وطريق ممهد يرتفع صوب المدخل، هذا ما نجده في معبد سيتي الأول بأبيدوس، معبد الدير البحري، معبد سيتي الأول بالأقصر، معبد رمسيس الثاني، جميع المعابد تقوم علي التدرج، تدرج في الطريق المؤدي، المدخل المهاب، الشاهق، الذي يفضي إلي قاعة فسيحة، مغطاة بسقف تتخلله فتحات تصل الأرض بالسماء، تصل المحدود، المؤطر باللانهائي، وتؤدي وظيفة الإنارة في نفس الوقت، القاعة التالية أضيق، وأعتم، لا يدخلها إلا الخاصة، حتي إذا وصلنا إلي قدس الأقداس، حيث تمثال الإله، غير مسموح إلا لكبير الكهنة والملك بالدخول، قدس الأقداس، أصبح المذبح في الكنيسة، الهيكل في المعبد، المحراب في المسجد، كما هو الأمر في الأهرام، إذ يتناقص كلما ارتفع حتي ينتهي إلي نقطة أياً كان حجمه أو ضخامته، كذلك المعبد في امتداده فوق الأرض، مراحل، تنتهي إلي قدس الأقداس، حتي الزخارف تتبع التدرج، زهور اللوتس في الساحة الأمامية متفتحة، في القاعة الوسطي تتقارب أوراقها، حتي إذا بلغنا المرحلة الأخيرة نجدها متضامة. لا شيء يولد مكتملاً، لا شيء يوجد فجأة، إنما لابد من تمهيد، لابد من إشارة، ألا ينبعث الضوء غير مفصح عن مصدره قبل ظهور قرص الشمس، ألا يبقي قليلاً بعد غيابها؟ التدرج في العمر، في الخطو، في الوقت، الوجود مراحل، سفر، البداية من لا شيء والنهاية حيث لا شيء، الشكل الهرمي معبر عن هذه الرؤية، إنه البناء الذي يبدأ من قاعدة عريضة تواجه الجهات الأربع، ثم تقل مع الارتفاع المائل إلي أن ينتهي هذا التكوين كله إلي نقطة، يتلاشي عندها كل شيء ويبدأ كل شيء، التدرج والثنائية، فلا يوجد شيء إلا بنقيضه، ضده، هذا أمران نتاج التأمل، أطول وأعمق عملية تأمل ربما في مسار البشرية، من الثنائيات عمليتا الهدم والبناء، لذلك أقبل المصريون علي البناء، الوعي بزوال الأشياء مع حركة الكون حاد، لكن كل فناء يولد منه وجود جديد، لذلك رفضوا الموت، رفضوا الفناء إلي الأبد، كما تخيلوا رحلة الشمس عبر مغيبها حتي ولادتها من جديد، تخيلوا رحلة الميت في عالم آخر، يعد امتداداً للوجود الملموس، هكذا اخترع المصريون العالم الآخر حباً وتمسكاً، بما هو قائم، شغلهم أمر البقاء في اللاوجود. الوسائل التي اتخذوها عديدة، في مقدمتها البناء، بناء قبر يحتوي علي رموز الوجود ومفردات الحياة ويكون علي صلة بالجهات الأصلية والفرعية، القبر محطة بين عالمين، بين وجودين، لذلك كان المصري ومازال يهتم بمثواه الأبدي أكثر من بيته في الحياة الدنيا، ماتزال القبور لها أماكنها الخاصة في المدن، دائماً عند الأطراف، نص مواز، كثيراً ما تأملت مقابر الأقباط، ومقابر المسلمين، ومقابر اليهود المحدودة مساحة وعدداً في القاهرة والاسكندرية، هذا الهدوء، هذا التخطيط الجيد للشوارع، بعض المراقد تحف معمارية، ذلك الحرص علي كتابة الاسم مسبوقاً باللقب وأحياناً الوظيفة التي كان يشغلها الراحل، ثمة حوار صامت بين الراحل والساعين في الحياة الدنيا، بعضه يكتب علي قبره صراحة، يطلب من الأحياء أن يترحموا عليه وأن يتذكروه بالخير، أن يعتبروا فمصيرهم إلي رقدته، تأمل ما يكتب علي شواهد القبور، آيات القرآن الكريم، الإنجيل، هذا التنوع في أشكال الشواهد، بعضها يبدو كأعمال فنية حديثة، مثل مقابر زاوية سلطان شرق النيل بمحافظة المنيا، أنصاف قباب متلاحقة كأنها أمواج بحر تجمدت، كذلك المقابر في صحراء الهو القريبة من قنا والأقصر، منذ القدم وحتي الآن، رغم تغير الديانة واللغة، أهم ما يشغل المصريون وجود مثوي أبدي للجثمان، أن يذكر بعد الرحيل، في العصر المملوكي، كان السلطان بمجرد توليه الحكم يشرع في بناء مسجد، الحقيقة أنه يبني قبراً، فالمسجد يضم قبة، والقبة تحتها ضريح، الهم المصري القديم بالبقاء حيث لا بقاء، فرض نفسه علي الحكام ذوي الأصول الأجنبية، لكنهم جاءوا إلي مصر صغاراً وتشربوا ثقافتها ورؤيتها، في العصر الحديث، بعد أن توفي عبدالناصر عام 0791، اكتشف المصريون أنه كان معنياً ببناء مثوي أخير له، كان مشتركاً في جمعية تعاونية شيدت المسجد الذي يرقد فيه الآن، أما الرئيس أنور السادات فكان مشغولاً ببناء قبر له في قرية ميت أبو الكوم، لكن القدر لم يمهله، إذ جري اغتياله فجأة عام 1891. الحكام والأمراء شيدوا المساجد لكي يرقدوا فيها حتي يكونوا بين الأحياء، في مكان له صفة القداسة، ليستمدوا مشروعية أخري لذكرهم، لكي يتردد اسمهم. أن يذكر الاسم بعد رحيل صاحبه، يكتبه فوق جدران المقبرة، في أماكن يصعب اكتشافها، لعل ما أقدم عليه المهندس، الفنان العبقري سنموت من أكثر ما استوقفني علي بذل المجهود والحيلة لبقاء الاسم، لقد شيد واحداً من أجمل معابد مصر، المعروف الآن بالدير البحري، صممه وشيده بأمر من مليكته الدلائل تشير إلي علاقة خاصة ربطتهما حتشبسوت، لقد أقدم علي كتابة اسمه داخل المعبد في أماكن يصعب رؤيته، وخلف الأبواب بحيث يستحيل ترصده إذا فتح ليمر أحدهم، في مقبرته كتب اسمه ثم غطاه بطلاء، وكتبه مرة أخري فوق الطلاء، كان يعرف بذكائه وحدة بصيرته أن وقتاً سيجيء ربما يمحي فيه اسمه، بل ربما كان علي يقين، الملكة حتشبسوت تزيل اسم شقيقها تحتمس من المعابد والأنصاب، وسوف يقوم الأخ بعد تمكنه من الإقدام علي نفس العمل باعتبار شقيقته مغتصبة للملك، حتي أن اسمها أسقط تماماً من قائمة أبيدوس. الاسم. من أوجده؟ هل سبق الاسم ظهور الكتابة أم انه مواز أو لاحق لها، أم انه قديم قديم، لنتخيل الوجود بلا أسماء، هل كان ممكناً وجوده بالشكل الذي نعرفه، الاسم ترميز للواقع وتلخيص، استمراره يعني استمرار صاحبه حتي لو لم يكن حياً يسعي، أتوقف حائراً، فياضاً بالأسئلة أمام معني الاسم ومنزلته ومغزاه.