امتلك يوليوس قيصر عقلية فوقية مركزية، أوهمته أنه شخص استثنائي، وذلك ما تجلي افراطا شديدا في ثقته بنفسه، فاصابة ذلك بآفة الوصاية بالاستحواذ علي السلطة المطلقة، وكانت تلك جنايته السياسية، وقد كثف شكسبير مأزقه في عتاب زوجته له بأن ثقته بنفسه تستهلك حكمته، فشخصت بذلك ضعفه، حيث لم تستطع حكمته ان ترشده إلي معرفة نفسه، فاجتمع عليه من دمروا استثناءه، ومن قبل يوليوس قيصر ومن بعده، يسجل تاريخ الوعي البشري دوي ثورات الحرية ضد الحكم المطلق ورفض الوصاية، التي دفعت نابليون يوما ان يعلن ان الثورة انتهت وان مبادئها تثبتت في شخصه، شكلت تلك الوصاية خرقا لكل حدود المبدأ الديمقراطي إذ اجاز صاحب الوصاية لنفسه ان يجبر ويقود مجتمعه بوصفه شخصا استثنائيا ملهما مستوعبا للمشكلات والحلول كافة، وان كانت بعض انظمة الحكم في عدد من البلدان تشدقت بالديمقراطية، وتقنعت بقناع النظام الجمهوري الديمقراطي، لكنها مارست الحكم المطلق في ادارة الشأن العام لمجتمعاتها بإزدواجية النية والفعل الخاص العام، تحرسها اجهزة القمع المتسلط احتكارا للثروة والسلطة بحكم الوصاية ودون حد، وذلك بالتحالف مع نخبة مصطفاة تستحوذ علي الثروات وتحتكرها، فابطلت بذلك الحراك الاجتماعية، ورسخت التفاوت المخيف المتزايد بين الناس، ليتأبد الفقر، وكذلك الثراء المتزايد لتلك النخبة، فانتفي بذلك المفهوم السياسي للعدالة الاجتماعي عمليا، في ظل غياب متطلبات التنظيم الاجتماعي، والكفاءة الاقتصادية التي تضبط حالات اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية، منعا لفئة من السيطرة علي بقية المجتمع، اغتصابا لحقوق المواطنين في تدبرهم لشئونهم وفقا لتصوراتهم التوافقية عن عدالة العيش المشترك في وطنهم. ان اساليب تلاعب تلك الانظمة رغم القمع المتسلط الذي يحميها واجهتها احد اسهامات الموجات المتعاقبة للديمقراطية، التي تجلت في الديمقراطية المعرفية السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، حيث اباحت مستجدات تكنولوجيا الاتصالات، امكانية حرية ممارسة التواصل، والتشارك، والتداول مع الاخر، والتبادل ارسالا واستقبالا للمعلومات والمعارف، وجعلت من المواطن عنصرا اساسيا مؤثرا في التغيير لاقامة مجتمع دون وصاية، بممارسة التحدي السياسي لتلك الانظمة، من خلال انفتاح المواطنين علي تلك المعابر التي سمحت لهم وسهلت اطلاعهم علي كتابات وآراء الكتاب الذين طرحوا تصورات للتحرر من الحكم المطلق، لا تعتمد علي العنف كأداة سياسية، وانما ترتكز إلي بدائل حقيقية تقوض قوة النظام الحاكم، بالضغط علي نقاط ضعفه، ومن اشهر هؤلاء الكتاب، الباحث الامريكي »جين شارب« الذي ترجمت اعماله إلي ما يقرب من ثلاثين لغة اقر »شارب« الاشتباك مع الواقع ورفضه علنا، بوصفه ممارسة للديمقراطية، لكنه رفض خيار العنف باستخدام الاسلحة والذخائر التي لا تؤثر في مواطن ضعف هذه الانظمة، بل تبرر لها استخدام قوتها الفائقة، وذلك ما يضع المقاومة في موقف ضعف، لذا انطلقت استراتيجية »شارب« اعتمادا علي التحدي السياسي الذي يكسر شرعية النظام الحاكم التي يستمدها من طاعة الجماهير وتعاونها، اذ ان خروج حشود متعددة من قطاعات كبيرة من المواطنين، حيث تمارس الاشكال السلمية الرمزية كافة للاحتجاج، بلا عنف معلنة عدم الطاعة، ورفض التعاون، هو ما يشكل خطرا مؤثرا في النظام الحاكم، يغير موازين القوي، ويؤدي إلي تفكيك النظام، واسقاط شرعيته. صحيح ان هذه الثورات الشعبية قد فجرتها شجاعة فاعلين جدد، هم شباب الديمقراطية المعرفية، الذين لا ينتمون الي النمط السائد لتاريخ الثورات السابقة، المرتبطة بزعيم او مخلص ملهم، لكن الصحيح ايضا انه لابد للثوار من الانتباه علي اهمية تطور تأثيرات المجتمع المدني في علاقاته بالانظمة السياسية، لقد اكد »شارب« ضرورة ان يؤسس الثوار مؤسسات اجتماعية مدنية مستقلة، بوصفها كيانات حيوية بالنسبة الي الديمقراطية، لا يمكن الاستغناء عنها كقاعدة بنيوية لمجتمع حر، انطلاقا من قدرتها علي تحريك المواطنين، وما تشكله من ضغط يمثل الحفاظ علي استمرار الوعي بالتحرر من قبل المواطنين، وفي هذا السياق، تتوافق التيارات الفكرية المعاصرة علي اهمية القدرة الديمقراطية الكامنة في مؤسسات المجتمع المدني التطوعية المستقلة التي تحكم ذاتها، وفاعليتها في مواجهة السلطة السياسية، والتأثير في تحولها الذاتي، بتصديها واستيعابها لمشكلات المصلحة العامة، وتلقيها ردود الافعال، وتدارسها، وبلورة الحلول، ونقلها جهرا الي الرأي العام، لتحول دون استبداد فئة، او تعسف سلطة تري اليس علي ثوار 52 يناير ان يبادروا الي تأسيس جماعات المجتمع المدني لتمارس مسئوليتها في الدفاع عن الحقوق، بوصفها شرطا اساسيا للمجتمع الديمقراطي.