للأستاذ عباس العقاد كتاب ضافٍ عن ثورة 1919 وإن حمل عنوان » سعد زغلول سيرة وتحية » . فالكتاب يستصفي زبدة ما في تلك الثورة وما صاحبها، وتأليف الوفد المصري. وبدء عمله، والقارعة التي تمثلت في اعتقال سعد زغلول وإسماعيل صدقي ومحمد محمود وحمد الباسل ونفيهم إلي مالطة، واندلاع شرارة الثورة، وما تلا ذلك من أحداث الثورة وما أسفرت عنه بدايةً من الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه، ثم ما اعترضها من خلاف علي المفاوضة وحصول القطيعة بين سعد والوزارة، مما أدي إلي فشل المفاوضات الرسمية، وإعادة نفي سعد زغلول في هذه المرة إلي » سيشيل » ومعه سينوت حنا، ومصطفي النحاس، ومكرم عبيد، وعاطف بركات، وفتح الله بركات، وما تلا ذلك من صدور تصريح 28 فبراير، والذي وصفه سعد بعد عودته ورفاقه من المنفي إلي الوزارة فقال : » هوناقة البدوي التي تباع بمائة درهم وتباع التميمة التي في رقبتها بألف، ولكن لا تباع الناقة بغير التميمة .. فما أملحها من صفقه » لولا الملعونة في رقبتها » ! اتخذ الوفد المصري فور تشكيله موقفًا رافضًا من الامتيازات الأجنبية، ولكنه لم يجهر به حتي لا يحول دون الاستقلال، ومن المعروف أن الامتيازات الأجنبية، لم تلغ إلاَّ فيما بعد سنة 1949، وسافر الوفد إلي أوروبا لطلب استقلال مصر، وعارض والشعب لجنة ملنر، فيما شب الخلاف علي المفاوضة بين الوفد والوزارة العدلية، وما أدي إليه ذلك من قطيعة بين سعد زغلول والوزارة، انتهت بفشل المفاوضات الرسمية، وصدور تصريح 28 فبراير، وإعادة نفي الزعماء هذه المرة إلي سيشيل، وعودة سعد من المنفي إلي رئاسة الوزارة ثم إلي رئاسة مجلس النواب، إلي آخر ما أنجزته الثورة وما فاتها، وليس هذا موضوع هذه السطور . الشخصية المصرية ليس من أغراض هذه السطور، تتبع ما كتبه الأستاذ العقاد عن ثورة 1919، وإنما التوقف عند البحث العميق الضافي عن الشخصية المصرية، والذي افتتح به الكتاب ومهد لرؤية الثورة . وأكاد لا أعرف بحثًا أعمق من هذا البحث في دراسة الشخصية المصرية، وهي غير » عبقرية المكان » التي انصرفت إليها المجلدات الأربعة للدكتور جمال حمدان عن » شخصية مصر » . من معالم الشخصية المصرية أنها حصاد تاريخ قديم العهد بالمدنية والحضارة، وتوارثت من العقائد والمأثورات ما صار به لها تراثًا مصونًا . أمة ذات أرزاق مطردة، ومعيشة منتظمة مستقلة، لا عدوانية فيها، ولا تلجأ إلي الحرب حين تلجأ إليها إلاَّ لأنها ضرورة لا محيص عنها واتقاءً لنكبة أكبر منها . أمة لا تطيع حكامها كما يطيع البدوي زعيمه، وإنما هي أمة توارثت العقائد والمأثورات جيلاً بعد جيل، وصار لها من بعض تلك العقائد تراث تصونه فوق صيانة المصلحة .. يستعصي قيادها إذا أصيبت في عقائدها وموروثاتها أوظهر لها الجور علي أرزاقها ومرافقها، هنالك يستعصي قيادها وتصمد للحرب صمود المقاتل المجبول عليها . بطلان فرية الخنوع ! ليس أكذب من رجم الأمة المصرية بالاستسلام والخنوع، فلوأحصيت الثورات في تاريخ مصر القريب، لبدا جليًّا بهتان هذه الفرية . ثار المصريون علي الفرنسيين، وثاروا علي الترك والمتتركين ؛ وثاروا علي الانجليز أكثر من مرة في قرن واحد، وكان للعقيدة والموروثات دخل في معظم هذه الثورات من حساب المصلحة القومية أوالفردية . قدم العهد بالمدنية أفرز قدم العهد بالمدنية، حب الأسرة واستقرار النظام البيئي علي أساس بعيد القرار . وينسي المصري كل شيء إلاَّ وشائج الرحم وآداب الأسرة . فالأسرة عظيمة الشأن في آداب المصريين من أقدم عصور التاريخ، فلا يتجرد المصري من عواطف الأرحام بين أبوّة وأمومة وبنوّة وقرابة وآصرة دانية أوقاصية .. وذلك هوقوام العرف الاجتماعي في أخلاقه وعلاقاته، وهوأيضًا قوام » المحافظة المصرية » التي تحب الألفة وتعرض عن البدع والخوارق . بين الآصرة الاجتماعية والارتباط بالنظام السياسي المصري اجتماعي من ناحية الأسرة وعراقة المعيشة الحضرية، وهذا الارتباط أقوي في نفسه جدًا من ارتباط النظام السياسي والمراسم الحكومية. والمصري علي خلاف المظنون وإن كان متحفظًا إلاَّ أنه متحفز أيضًا للتغيير حين تتجمع دواعيه. ولا ينبغي أن يفهم من هذا أن المصري ضعيف الاهتمام بالسياسة، أومنصرف عن تتبعها واستطلاع أخبارها ومجرياتها، أوأنه قليل البصر بمداخلها ومخارجها . الذهن المصري والذهن المصري العريق ذهن عملي واقعي، سهل المنطق، شأنه في ذلك شأن أبناء الأمم الزراعية عامة . فالأرض والغلة والنيل والفيضان وأطواره كلها من الوقائع المحسوسة المطردة في قياس عقل المصري بغير توثب في خيال ولا جموح خاطر .. لا يحوجه اتصاله بالغيب إلي التخيل، وإنما يحوجه إلي التدين والإيمان والانتظار في شيء من التسليم . لهذا فعندما خلق المصري القديم عالمه السماوي خلقه عالمًا أرضيًّا آخر علي غرار العالم الأرضي المشاهد بالعيان . ولهذه العقيدة المصرية واستوائها وحضارة الأمة التي تعتقدها وعذوبة طبعها وإيناس عشرتها وألفتها سلم الدين في مصر من » لوثة العصبية العمياء »، وسلم تاريخ مصر من المذابح الطائفية والضغائن الدينية إلاَّ أن يكون تسللاًّ من طائفة غريبة أوتطرف دخيل . الصبر والألفة بالأرض فالمصري عامل في حياته كما هوعملي في النظرة إلي الحياة، وما يحسبه البعض ركودًا ما هوإلاَّ ألفة بأرضه وسكنه وتربة وطنه . لا يخف إلي هجرتها إلاَّ للعذر القوي . صبره علي العمل والمشقة، نسيج في شخصيته، زرعه فيه جريان النيل والمواسم الزراعية التي ينتظر كل منها في أوانه ولا يتقدمه . يربط كل أمل بأجله . لذلك كان المصري طويل البال، فيه أثر » القدرية » وانتظار الغيب، قليل الاستعجال للمقادير .. جلود مسالم صبور .. شعاره في الخصومة .. » اصبر علي جار السوء .. إلخ » . لا يعجل بالشر إلاَّ أن يُدفع دفعًا إلي الانتقام، ولا يحجم عن خطر في سبيل الخصومات الأهلية المرتبطة بالأسرة . فإذا احتمل من الحكومة ما لا يحتمله من غيرها، فليس ذلك جبنًا ولا فتورًا، وإنما لتغلغل الأسرة في نسيجه وكيانه . ولم يحل هذا الصبر دون أن يكون المصري » ابن نكته »، يقدر النكتة والدعابة، ولعل ذلك مما يعينه علي الصبر والاحتمال . تلك هي الخطوط الرئيسية العاجلة » للنفس المصرية » التي رآها الأستاذ العقاد بعين الواقع، وهي خصائص انسانية تقترن بالقوة وتعتنق أفضل ما عرف من أخلاق الشعوب .