تحل اليوم الذكري التاسعة والخمسون لثورة يوليو المجيدة ،ومصر تعيش مرحلة فاصلة في تاريخها الطويل ، الذي يشهد علينا كشعب قادر علي التغيير مهما تبدلت عليه قوي الشر والفساد من محاولات طمس لهذا التاريخ أو فرض القهر والإظلام لعقول الأجيال الجديدة ، فلابد أن تكون هناك وقفات حاسمة تكشف بقوة حقيقة معدن هذا الشعب المذهل ،الذي فجر ثورة يناير بكل عفوية أذهلت شعوب العالم وأثارت الشعوب العربية الأخري علي حكامها الفاسدين . في هذه الأيام صدرت مجموعة من الكتب عن ثورة يوليو وأخري من وحي ثورة يناير اخترت بعضا منها لتكون شاهدة علي عظمة هذا الشعب الذي لا يغلبه أحد مهما كانت سطوته . سأل الحفيد جده: من هو جمال عبد الناصر ؟ دهش الجد من سؤال حفيده ،فهو الذي عاش مع جمال عبد الناصر لحظات الانتصار في حرب السويس 1956 ولحظات تحرير الدول العربية من الاستعمار من الخليج إلي المحيط . وأيام كان للعرب عز ومجد يفتخرون بتحقيقه مع زعيم لم ينكسر حتي لحظة الهزيمة. الدكتور خالد عزب والباحثة صفاء خليفة اجتمعا معا لحكي قصة الزعيم جمال عبد الناصر لكل الأجيال التي لم تعرفه ، من خلال كتابهما الجديد الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية تحت عنوان " جمال عبد الناصر من القرية إلي الوطن العربي الكبير. الكتاب الذي صدر علي شكل كتالوج مصور ينقسم إلي قسمين رئيسيين، القسم الأول يبدأ من عام 1918 وينتهي عام 1951 والقسم الثاني يبدأ بعام 1952 وينتهي بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر. ويقدم الكتالوج إطلالة علي أهم الأحداث العربية والإقليمية والدولية التي كان لها كبير الأثر علي جمال عبد الناصر قبل توليه رئاسة الجمهورية، ويبين كيف كان يتحرك من خلالها بعد أن تولي منصب الرئاسة وكيف أثرت علي أهم القرارات المصيرية في تاريخ مصر الحديث. ويتعرض القسم الأول في البداية لقرية بني مر؛ موطن الرئيس، ثم حياة الطفل جمال في حي باكوس بالإسكندرية، ومراحل التعليم المختلفة التي مر بها، والظروف التي أثرت في تكوينه الفكري، فقد كان رب الأسرة بحكم عمله دائم التنقل بين قري ومدن ومديريات مصر، الأمر الذي مكّن جمال عبد الناصر منذ الصغر من التعرف علي واقع بلاده، وعلي البؤس والشقاء الذي كان يعاني منه الشعب المصري آنذاك. عاش جمال عالمًا متنوع الأطر والمقومات، وكان لذلك أثره في بلورة وتشكيل رؤيته، فبعد أن نُقل والده للعمل بمكتب بريد الخطاطبة، تلقي تعليمه الأولي بمدرسة الخطاطبة، وفي العام الدراسي 1925-1926 التحق جمال بمدرسة النحاسين الابتدائية لمدة عام، ثم مدرسة العطارين. وكان جمال طالبًا في الثالثة عشرة من عمره عندما تقدم جموع المتظاهرين بعد أن استصدر إسماعيل صدقي مرسومًا بإلغاء دستور 1923 وكان لهذه المظاهرة وقعها وتأثيرها الكبير علي وجدان جمال، فقد اعتبر الجراح التي أصيب بها وسام شرف بين رفاقه الطلبة. وانتقل جمال بعد ذلك إلي مدرسة رأس التين ثم المدرسة الفريدية، حيث واصل دراسته لمدة عامين. ويعرض الكتالوج نشاط جمال عبد الناصر في تلك الفترة، ففي عام 1933 ضاق المسئولون في المدرسة ذرعًا بنشاطه، ونبهوا أباه الذي أرسله إلي القاهرة ليعيش في كنف عمه خليل، والتحق بمدرسة النهضة الثانوية بحي الظاهر. وفي تلك الفترة، قرأ عبد الناصر العديد من المؤلفات الهامة، والتي يتعرض لها الكتالوج بشيء من التفصيل، ولكيف أثرت هذه القراءات المتنوعة والمتميزة في تكوين فكر الطالب جمال عبد الناصر. ناصر ومصر الفتاه ويتناول "من القرية إلي الوطن العربي الكبير"، انضمام جمال عبد الناصر لجمعية مصر الفتاة، واشتراكه في مظاهرات نوفمبر عام 1935 وحياته وهو طالب بالكلية الحربية والصعاب التي واجهته قبل دخولها، وتخرجه فيها أول يوليو عام 1938 وأيامه في قرية منقباد بعد التخرج. كما يتطرق إلي التحاق جمال بالعمل في السودان في مارس 1939 والتي أكسبته خبرة ضخمة في معرفة الناس والبلاد، حيث عاين عن كثب الآثار المدمرة للهيمنة الاستعمارية البريطانية، كما يشير الكتالوج إلي حادث 4 فبراير 1942 وتأثيره علي الضباط في تلك الفترة، ثم انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. ويرصد أيضا تفاصيل بداية حركة الضباط الأحرار، فعقب صدور قرار تقسيم فلسطين في سبتمبر 1948 عقد الضباط الأحرار اجتماعًا واعتبروا أن اللحظة جاءت للدفاع عن حقوق العرب ضد هذا الانتهاك للكرامة الإنسانية والعدالة الدولية، واستقر رأيهم علي مساعدة المقاومة في فلسطين، وكان لتجربة حرب فلسطين آثار بعيدة علي جمال عبد الناصر. وبعد عودته من فلسطين، عين جمال عبد الناصر مدرسًا في كلية أركان حرب. وينتهي القسم الأول بانتخابات نادي الضباط واختيار اللواء محمد نجيب قائدًا للحركة في ديسمبر عام 1951، وحصول محمد نجيب علي أغلبية شبه إجماعية. حريق القاهرة يبدأ القسم الثاني بحريق القاهرة في 26 يناير 1952 بعد اندلاع المظاهرات احتجاجًا علي مذبحة رجال البوليس بالإسماعيلية التي ارتكبتها القوات العسكرية البريطانية في اليوم السابق. ومن أهم الأحداث التي يتناولها الكتالوج بالتفصيل في هذا القسم، ثورة يوليو 1952 وأهم قرارات مجلس قيادة الثورة، ومنها (إعلان الدستور المؤقت في 10 فبراير 3195 وإلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية في 18 يونيه 1953 وقرار إعادة تشكيل لجنة مصادرة أموال وممتلكات أسرة محمد علي في 8 نوفمبر 1953 وقرار حل جماعة الإخوان المسلمين في 14 يناير 1954 والسماح بقيام أحزاب وحل مجلس قيادة الثورة في 24 يوليو 1954). يعرض الكتالوج إلي إنجازات الحقبة الناصرية بداية من الإصلاح الزراعي، والقضاء علي الإقطاع، ومرورا بقراره التاريخي بتأميم قناة السويس 26 يوليو 1956 والوحدة المصرية السورية في فبراير 1958 وافتتاح متحف رشيد القومي في 19 سبتمبر عام 1959 وبدء العمل في مشروع السد العالي في 1960 وقوانين يوليو الاشتراكية عام 1961 والميثاق الوطني في 21 مايو 1962 انتهاء ببرنامج جمال عبد الناصر للنضال الوطني في 30 مارس 1968. كما تناول أيضا الحروب التي خاضتها مصر في عهده حرب الأيام الستة عام 1967 وحرب الاستنزاف من يونيه 1967 إلي أغسطس 1970. سياسة عدم الانحياز ويتطرق الإصدار إلي أهم التنظيمات الحزبية التي مرت بها مصر خلال هذه الفترة، بدءًا من هيئة التحرير في يناير 1953 والاتحاد القومي في يناير 1956 والاتحاد الاشتراكي العربي في مايو 1962 وكذلك الاتفاقيات الهامة التي عقدتها مصر، ومنها اتفاقية السودان وتطبيق مبدأ حق تقرير المصير، في فبراير 1953 وتوقيع اتفاقية الجلاء بالأحرف الأولي في 27 يوليو 1954 واتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وسوريا، والاتفاقية العسكرية الثلاثية بين مصر وسوريا والأردن، ومشروع اتفاق الوحدة بين الجمهورية العربية المتحدة وسوريا والعراق في ابريل 1963. ويلقي الكتالوج الضوء علي حضور مصر لأهم المؤتمرات الدولية والإقليمية والعربية والإفريقية التي تمس الأمن المصري وتناقش أهم القضايا العربية ومنها مؤتمر التضامن الآسيوي الأفريقي في يناير 1958 ومؤتمر القمة الأفريقي بالدارالبيضاء بالمغرب في يناير 1961 ومؤتمر بلجراد في سبتمبر 1961 والميثاق الإفريقي بأديس أبابا، ومؤتمر القمة العربي الأول، وانعقاد أول مؤتمر قمة أفريقية في القاهرة في يوليو 1964 ومؤتمر القمة العربية الثاني في الإسكندرية في سبتمبر 1964 ومؤتمر القمة العربية الثالث في المغرب، ومشاركة مصر في مؤتمر القمة الإفريقي في كينشاسا بزائير، ومؤتمر القمة الثلاثي المنعقد بالقاهرة حول الموقف العربي في 12 فبراير 1970 . ويتطرق أيضا إلي سلسلة مؤتمرات عدم الانحياز ودعم مصر لسياسة الحياد الإيجابي والتي بدأت بمؤتمر باندونج في أبريل 1955 ومؤتمر بريوني في يوليو 1956 ومؤتمر القمة الثاني لحركة عدم الانحياز في القاهرة في أكتوبر 1964 ومؤتمر الأقطاب في الهند في 21 أكتوبر 1966. بالإضافة إلي أهم لقاءات وزيارات جمال عبد الناصر،علي الإطلاق وهي زيارته للأمم المتحدة 27 سبتمبر 1960 وحضوره لمؤتمر الصحفيين اليابانيين حول قضية فيتنام 10 فبراير 1966 ولقاؤه بالفيلسوف الفرنسي "جان بول سارتر"، والكاتبة "سيمون دي بوفوار"، و"كلود لانسمان" رئيس تحرير مجلة العصور الحديثة. وفي تناغم إنساني رائع يصور لنا الكتالوج جزءا من حياة جمال عبد الناصر الإنسان، بعضها مع عائلته الكبيرة، وبعضها من بيته في منشية البكري بين زوجته وأولاده، ولمحات من حياة الأب والأخ والصديق جمال عبد الناصر، إلي أن ينتهي الكتالوج بيوم وفاة جمال عبد الناصر وجنازته.