بخطي قوية وثابتة يسير الأزهر الشريف نحو استعادة دوره الريادي ومكانته العظيمة، وبعد أن خرجت منها مبادرة " بيت العائلة " تلك التي تسعي لجمع شمل أبناء المجتمع، والقضاء علي بذور الفتن الطائفية التي يسعي البعض لغرسها في جسد المجتمع لإشعال النيران والفتن وإشاعة الفوضي والخلافات، ها هي " وثيقة الأزهر " التي أعلنها فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، تأتي هي الأخري لترسم خطوات مصر نحو دولة ديمقراطية تقوم علي أساس دستور يرتضيه جميع المصريين، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة، ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها علي قدم المساواة، كما توضح تلك الوثيقة التي جاءت نتاجا للحوار مع المثقفين المصريين علي اختلاف انتماءاتهم الفكرية والدينية، بهدف الحفاظ علي أمن وسلام مصر في اللحظة التاريخية الفارقة التي تمر بها بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير،أن الإسلام لا يعرف في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف في الثقافات الأخري بالدولة الدينية الكهنوتية، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، مشددا علي أن ذلك مشروط بأن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخري الاحتكام إلي شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية، ومؤكدا من خلال تلك الوثيقة علي أهمية صيانة كرامة الأمة المصرية والحفاظ علي عزتها الوطنية، وتأكيد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أية مُعوِّقات، . يقول د.محمود عزب مستشار شيخ الأزهر للحوار : الأزهر الشريف يدرك أهمية المرحلة الحساسة والحرجة التي يمر بها المجتمع المصري، كما أنه مدرك لثقة الشعب المصري فيه بكل طوائفه وفئاته وبمختلف انتماءاته الدينية والفكرية والثقافية، كما يدرك كذلك وجود خلط في المفاهيم لدي الناس في المفاهيم، فهناك فئة تسعي لنشر البلبلة بين أبناء الشعب والإشاعات المغرضة والأخبار الكاذبة، لذا جاءت الوثيقة لتزيل أي خلط في المفاهيم، ولكي تسعي لإعلاء مصلحة الوطن العليا، وتضع مفاهيم واضحة صريحة لا لبس فيها، حيث تطالب الوثيقة بدولة وطنية ديمقراطية دستورية حديثة، حيث تطالب بتأسيس دولة ديمقراطية علي أساس دستور يرتضيه جميع المصريين، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة، ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها علي قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب و بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح. ويضيف د.عزب ويقول : الوثيقة تنفي ما يثيره البعض من مخاوف حول إقامة "دولة دينية" في مصر، فقد نفي شيخ الأزهر وجود مثل هذه الدولة في التاريخ الإسلامي، مؤكدا أن الإسلام لم يعرف لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف في الثقافات الأخري بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلطت علي الناس، وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم. مع تأكيد فضيلته أن ذلك مشروط بأن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخري الاحتكام إلي شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية. كما تؤكد الوثيقة علي ضرورة اعتماد النظام الديمقراطي، القائم علي الانتخاب الحر المباشر، الذي هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشوري الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب، وتوخي منافع الناس ومصالحهم العامة في جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شئون الدولة بالقانون وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول علي المعلومات وتداولها. أيضا أكدت الوثيقة علي أهمية الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد علي مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسؤولية في المجتمع، مع الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، مع اعتبار الحث علي الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة في حق الوطن. هوية الدولة المصرية ويوضح د.حسن الشافعي مستشار شيخ الأزهر، و أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، أن الوثيقة قد حددت هوية الدولة المصرية المنشودة بعد سقوط النظام السابق، حيث إنها اقترحت دولة وطنية دستورية ديمقراطية حديثة، ويقول : علينا أن ندرك أن مصطلح دولة مدنية يختلف عليه الناس وكلمة " مدنية " ليست ضمانا للحرية والعادلة والمساواة واحترام الشرائع والتعددية كما يعتقد البعض، بل إنها يمكن تأتي كسبب من أسباب الاختلاف حيث يفسرها البعض كما يحلو له فيجنح البعض بها شمالاً، والبعض الآخر يجنح بها يمنياً، دون أن يتفقا علي معني واحد لها؛ ولهذا اختار الأزهر الشريف تحديد المضمون للدولة المصرية التي ننشدها بكل دقة بعيد عن التفسيرات والتأويلات، وعلي نحو لا يترك فرصة للاختلاف في المفهوم الذي يجب أن تكون عليه الدولة، فهي دولة تهتم بعزة الدولة ومواطنيها، دولة تحترم حرية الرأي والتعددية، دولة ديمقراطية تخضع للدستور الذي يرتضيه الشعب، دولة أن تقوم علي أساس المواطنة، دولة حديثة تقوم علي الفصل بين السلطات، دولة التشريع فيها متروك لمجلس الشعب الممثل للشعب، دولة الدين الإسلامي الرئيسي للتشريع وتجربة مصر في ذلك استمرت عليها لعقود طويلة دون أي مشاكل حقيقية، أو مختلقة، فالجميع يجب أن يدرك أن تطبيق الشريعة الإسلامية هو ضمان للتعددية وحرية الاعتقاد وممارسة العبادات لأصحاب الديانات السماوية الأخري، الذين تكفل لهم الشريعة الإسلامية أيضا الاحتكام إلي شريعتهم فيما يتعلق بشئونهم وبالأخص في الأحوال الشخصية .ويشير د.الشافعي إلي أن الوثيقة أكدت علي أهمية التعليم والبحث العلمي ودخول عصر المعرفة، باعتباره قاطرة التقدم الحضاري في مصر، وتكريس كل الجهود لتدارك ما فاتنا في هذه المجالات، وحشد طاقة المجتمع كلّه لمحو الأمية، واستثمار الثروة البشرية وتحقيق المشروعات المستقبلية الكبري، مع إعمال فقه الأولويات في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ومواجهة الاستبداد ومكافحة الفساد والقضاء علي البطالة، وبما يفجر طاقات المجتمع وإبداعاته في الجوانب الاقتصادية والبرامج الاجتماعية والثقافية والإعلامية علي أن يأتي ذلك علي رأس الأولويات التي يتبناها الشعب المصري في نهضته التي ينشدها ويسعي لها الآن بكل جد . ويشدد د. الشافعي، علي أن وثيقة الأزهر تنفي أي مزاعم وتسكت أي مخاوف من القول بأن الإسلام لا يعرف الدولة المدنية وأنه يدعو إلي الدولة الدينية، ويقول : فهذه المزاعم والأكاذيب لم يقل بها أي مؤرخ مشتغل بالتاريخ الإسلامي، بل وحتي المستشرقيون أنفسهم لم يقل أحد منهم ذلك، كما أن القرآن الكريم ليس فيه محل للدولة الدينية التي نشأت بالأساس في الغرب و قامت بسببها ثورات كثيرة وأريقت دماءٌ كثيرة الأمر الذي لم يحدث قط في تاريخنا، فالدولة الدينية لا علاقة لها بالإسلام وفكرتها غير موجودة علي الإطلاق في ديننا، لكن محاولة إلصاقها بالإسلام تأتي من قبل بعض من يرغبون في استيراد مشكلة لنا لا أساس لها ؛ كي ننشغل بالبحث عن حل لها . لايكفي وضع الوثيقة ويري د. عبد المعطي بيومي العميد الأسبق لكلية أصول الدين جامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية أن وثيقة الأزهر جاءت أكبر من أن تكتفي فقط بطمئنة الناس من قبل الأزهر علي الدولة المدنية الديمقراطية، وليست دولة كهنوتية حيث إنه لا توجد دولة كهنوتية في الإسلام، ويقول: حيث جاءت الوثيقة لتمثل إشارات مهمة جدا، فهي أصل لمشروع حضاري متكامل ينطلق من الهوية العربية الإسلامية، ويحقق الذات المصرية التي عرفت بأنها صاحبة شخصية متدينة علمية في الوقت نفسه، وكل المشاريع التي سبقت الوثيقة كانت تخلو من رعاية العنصر الروحي الديني، والعنصر المدني الديمقراطي الدستوري الذي تعيش به مصر و دول العالم، وتعيش عصرها الحالي .ويضيف د. عبد المعطي ويقول: أيضاً جاءت الوثيقة لتمثل كل التيارات السياسية والفكرية والعلمية في مصر بحيث كانت محل إجماع، وذلك عبر اجتماعات مطولة متأنية شارك فيها عدد من علماء الأزهر ومن مثقفي مصر بمختلف اتجاهاتهم فقد كان منهم العلمانيون والليبيريون، المتدينون مسلمون ومسيحيون، رجال ونساء، الكل كان ممثلا في نقاش عقلاني هادئ و واع يتناسب مع خطورة المرحلة ولذلك جاءت بنود الوثيقة جميعا محل إجماع . لكن هنا يطرح سؤال ماذا بعد الوثيقة؟ أعتقد أن الأزهر سيواصل مع المثقفين المصريين ، لوضع الخطوط العامة للإجراءات التي تنفذ بها بنود الوثيقة فلا يكفي أن تضع الوثيقة لنا أصول المبادئ العليا التي تمثل روح الدولة والدستور، وروح المشروع الحضاري المأمول المناسب لروح العصر، فلابد أن تستمر الاجتماعات في الأزهر المعروف بدوره المستنير والوسطي وبوعيه لمرحلة الحاضر، فيستمر تعاونه مع مثقفي ومفكري وعلماء مصر ومخلصيها، إن التاريخ يشهد أن معظم التحولات الكبري عبر أكثر من ألف عام كان للأزهر دور ريادي فيها، فالثورة العرابية انطلقت فكرتها من أحد أروقة الأزهر، وتولية محمد علي وتحقيق النهضة الحديثة كان لرجال الأزهر دور كبير فيها، وامتدادا لهذا الدور العريق للأزهر نرجو أن يواصل اجتماعاته إلي أن تتحول الوثيقة إلي واقع مملوس.