أمعنت النظر في الغابات الإسمنتية المكدسة علي امتداد الطريق الدائري، وشكل الأبراج القبيحة المتزاحمة علي الجانبين بالطوب الأحمر، والعمارات المطلية بكل ألوان الطيف، لتعكس حالة لا مثيل لها من القبح والفوضي والعشوائية، وتكشف عن جريمة مكررة ومستمرة في حق الوطن، يفلت مرتكبوها من العقاب بعقد تصالح أو تراض مع السادة المتواطئين والموالسين والمدلسين داخل المحليات، ودفع غرامة مالية لا تزيد قيمتها علي ثمن شقة في هذه الأبراج العشوائية المخالفة، لتتحول جريمة الاعتداء علي أراضي الدولة إلي بوابة سحرية للتربح والمكسب السريع، وجني الأموال بطريقة غير مشروعة تحت غطاء القانون.. ولا عزاء للوطن!! كنت في طريقي إلي مدينة الإنتاج الإعلامي بصحبة سائق المحطة التليفزيونية، وهذا ما جعلني أرقب بوضوح وإمعان التحول الرهيب الذي طرأ خلال الفترة الماضية علي تلك المناطق، وجعل منها غابات خرسانية متلاحمة، وأبراجا متلاصقة مشوهة، بعيدة عن أي تخطيط عمراني، أو تنظيم هندسي أو رقابة حكومية، كما منحني فرصة ان أري كيف اغتصب الفساد والإهمال مئات الألاف من الأفدنة الزراعية، وسلب مساحات شاسعة من أراضي الدولة، وصنع منها مناطق تعج بكل صنوف ومظاهر القبح والفوضي والقذارة، ودمر صورة أهرامات مصر العظيمة التي توارت خجلا أمام جرائم الأحفاد وفساد الذمم والضمائر والأخلاق. ملايين المباني المخالفة ترتفع فوق أرض مصر، ومازال قانون التصالح المحرض علي الفساد يطل علينا بابتسامته الماكرة الصفراء، مخرجا لسانه للدولة والمسئولين في تحد سافر، مئات الآلاف من الأفدنة الزراعية تغتصب، ورغم ذلك ليس لدينا خطة تتصدي لتلك الظاهرة التي استفحلت وتوحشت، أو رؤية موضوعية لمواجهة سرطان العشوائيات الذي ينهش جسد الوطن، ويدمر كيان المجتمع ومستقبله. بالله عليكم كيف يعاقب بالسجن من يسرق سيارة أو قطعة مجوهرات أو يبدد أموال مواطن، أو يعرض حياة شخص للخطر، في حين نتسامح مع من يسرق أرض الدولة، ويبدد مستقبل الوطن، ونتصالح مع من يهدد حياة مئات البشر بالموت تحت أنقاض الأبراج الخرسانية غير المرخصة؟! كيف نتساهل مع هؤلاء الفاسدين والمفسدين وأعوانهم وأذنابهم في المحليات، ونوفر الكهرباء والمياه لتلك الأبراج التي يتربحون منها، ونطالب بتقنين أوضاعها وتوصيل المرافق لسكانها؟! يا سادة.. إن توصيل المرافق بشكل دائم أو مؤقت لتلك الأبراج العشوائية غير المرخصة يحرض الفاسدين والطامعين علي التمادي في تلك الجرائم، ويساهم في تنامي تلك الظاهرة الخطيرة، كما أن عدم معاقبة صاحب العقار المخالف سيظل حائلا دون الوصول إلي حلول واقعية توقف هذا الزحف العشوائي المدمر، لذا لابد من إصدار تشريع قوي، يقضي بمصادرة العقار المخالف، وحبس صاحبه والمقاول والمهندس وكل المشاركين في تلك الجريمة، وحتي إذا اضطرت الدولة الي التسليم بعدم إزالة تلك المخالفات والعشوائيات لأسباب سياسية واجتماعية وإنسانية واقتصادية، فلا يعقل أن نطالب بتقنين الأوضاع، ويظل المجرم حرا طليقا، يستمتع بحصاد جريمته، وما كسب من أموال وثروات علي حساب مستقبل الوطن. المفارقة الغريبة والمحيرة حقا أن أجد صباح اليوم التالي السيد محافظ الجيزة، ولفيفا من القيادات المحلية يتركون هذا الكم من القضايا والمشاكل التي تفيض بها المحافظة، ليقفوا تحت مظلة ناصعة البياض، أعدت خصيصا لزوم تشريفهم بسياراتهم الفاخرة للحديقة التي تتوسط ميدان نادي الصيد، ومنصة وميكرفونات وأعلام وسجاد والذي منه، وضباط وعساكر مرور لإخلاء الميدان ومنع حركة مرور السيارات حتي ينتهي المحافظ والمسئولون من التقاط الصور التذكارية. يحدث هذا في الوقت الذي تنتشر فيه المخالفات والتعديات علي بعد خطوات من هؤلاء المسئولين الكبار، أكشاك المشروبات والفاكهة والخضراوات والمأكولات التي تحتل الأرصفة، وتحرم المواطنين من حقهم الطبيعي في السير فوق الرصيف، وأعمدة الإنارة الشاهدة علي سرقة التيار الكهربائي والكابلات، لإنارة بيزنس المخالفات والتعديات، وبعد انتهاء الزيارة التي لا هدف منها سوي "التلميع الورنيشي" عادت سيارات الميكروباص تحتل ميدان علاء الدين "الصيد سابقا"، وهو المكان نفسه المخصص لسباق السيارات والموتوسيكلات الصيني، وتدخين الشيشة وخلافه، والسهر علي أنغام الموسيقي الشعبية حتي الساعات الأولي من الصباح!! أعود وأقول يا حضرات: أن الفساد لا يقتصر علي جرائم الرشوة والمحسوبية وسرقة المال العام، وإنما يمتد ليشمل الانحراف الإداري، والإسراف وسوء استغلال الموارد، والتفرد بالسلطة وعدم النزاهة والتقاعس عن أداء الواجب الوظيفي.. فهل من مجيب؟! لقد تدهور وضع مصر في مؤشر مكافحة الفساد، طبقا لمنظمة الشفافية الدولية، حيث سجلت 32 نقطة مقابل 34 نقطة العام السابق، وهذا يعني أن هناك تراجعا للعام الثالث علي التوالي، بعدما ارتفعت درجة النزاهة عام 2014 من 32 نقطة إلي 37 نقطة، فإلي أين نحن متوجهون في قضية مكافحة الفساد؟!