يعد هناك مجال لاستمرار تجاهل الإجابة علي السؤال المصيري »ما الذي حدث للشخصية المصرية؟»، وهي إجابة ستستغرقنا قليلا نحو الماضي في محاولة لفهم جزء من تفاصيل ما الذي جري، بعدها سنتجه مباشرة نحو »الفريضة الغائبة والمغيبة مع سبق الإصرار والترصد» وهي فريضة بناء الإنسان المصري، بمعني أدق إعادة البناء والترميم ارتكازا علي عمق تاريخي وموروث ثقافي ضارب في جذور التاريخ يمكن جدا إعادة البناء عليه. صبيحة وقف إطلاق النار عام 1973.. حتما قررت الأطراف المهزومة التوقف مع ذاتها لمواجهة حقيقة الشخصية المصرية التي كشفت عن معدن أسطوري عبر عن ذاته بقوة مذهلة، يقينا قررت هذه الأطراف التصدي لأسباب القدرة التي كشفت عنها هذه الشخصية آنذاك في حرب أكتوبر لتجد نفسها أمام شفرات تحتاج إلي فك طلاسمها، للوصول إلي إجابات علي الأسئلة التي فرضت نفسها علي الحالة علي النحو التالي: ■ كيف تحملت هذه الشخصية الهزيمة المرة؟ ■ كيف حافظت علي السلام الاجتماعي؟ ■ كيف حدث الالتفاف حول جيشها الذي تعرض لهزيمة ظالمة؟ ■ كيف حددت أدواتها المفقودة وامتلكتها وسيطرت عليها؟ ■ كيف ارتقت علي الآلام واتخاذ قرار ليس بالحرب بل بالانتصار؟ ■ كيف توحدت قواها الناعمة والصلبة في كيان واحد من أجل هدف واحد؟ ■ كيف قدمت نموذجا مؤسسيا قادرًا علي تحقيق أهدافه بهذه الدقة؟. وفي النهاية ساقت اجابات كل هذه الأسئلة إلي أن السر هو هذه الشخصية، فلم يكن هناك بد من البدء فورا في استهدافها. • عملية الاستهداف كانت تهدف لتفكيك هذه الشخصية وبالتالي تحويلها إلي كيان غير قابل للانتماء العميق لأي شيء، وتدريجيا يفقد عقيدته القتالية المؤمنة بفكرة الوطن وصولا إلي حالة من الاسترخاء المجتمعي اللاإرادي، لتتحول هذه الشخصية من حالة »السلام الاجتماعي» إلي حالة »الاستسلام الاجتماعي». لقد حدد المستهدفون ما يريدون بدقة وصولا إلي تحويل هذه الشخصية لمسخ إنساني هويته هشة من خلال ما يلي: ■ تمكين الثقافة الوافدة من عملية غزو كثيفة. ■ نشر ممنهج لمشاعر الاغتراب داخل الوطن. ■ اختراق روافد القوي الناعمة المصرية لكونها الوعاء الحاضن لهذه الهوية. ■ تمكين الخطاب السلفي لقدرته علي إحداث خلل في مفهوم الوطن في الذهنية العامة. ■ الدعوة لإخضاع المنتج الأدبي والفني لتقييم معايير دينية ليس لها علاقة بطبيعة ذلك المنتج القائم أساسا علي مخاطبة الخيال. ■ المزايدة علي وطنية الأنظمة المصرية المتعاقبة بعد إتمام عملية السلام مع إسرائيل. ■ غرس المكون الديني في الحياة السياسية. ■ الاستخدام المتعمد لظاهر الدين لخلق حالة طائفية. ■ السماح لجماعات الاسلام السياسي بالتمدد في مساحات نفوذ شعبية. ■ خلق حالة من الإحباط القادرة علي التجدد ذاتيا للدفع نحو استخدام الدين كوسيلة للهروب من الواقع الأليم. إذن الهدف العام هو جعل هذه الشخصية منكفئة علي ذاتها ومنهزمة ذاتيا وداخليا وبالتالي تظل غير قادرة علي أي أداء إيجابي، ولم يكن هناك قاعدة أكثر قدرة علي تحقيق مخطط تشويه وتشتيت الشخصية المصرية إلا قاعدة استخدام الدين لإعادة تشكيل شخصية جديدة بهدف زيادة حالة الاغتراب داخل الوطن.. وبالتالي فإن الاستخدام الديني لإعادة صياغة الشخصية كان مراده الآتي: ■ منح جماعات الإسلام السياسي أدوات ومساحات متعددة للسيطرة. ■ إفقاد الشخصية المصرية ثقتها في ذاتها لتصبح أكثر هشاشة وأكثر قابلية للتأثر بعوامل إعادة التشكيل الخارجية. ■ إخضاع الشخصية المصرية لعملية خداع مستمرة من خلال الإيحاء لها بأنها مازالت تبحث عن هويتها المفقودة ذات الطابع الإسلامي وهو أمر مخالف لواقع المنطق لأن التراث المصري أقدم من كل الأديان. ■ تشتيت فكرة الوطن في الذهنية العامة للشخصية المصرية بتكريس وهم أن الإسلام وطن وليس دينا وهو ما يخالف صريح النص القرآني (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَي وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). بصريح النص فقد أقر المولي عز وجل بالشعوبية والقبلية وجعل من الاختلاف وسيلة للتعارف. ■ منح المؤسسات الدينية وصاية غير مستحقة علي المجتمع. ■ منح علماء الدين مساحات من النفوذ السياسي. كل ذلك بهدف إتمام عملية غير منطقية يمكن تسميتها بعملية »نقل شخصية» من أجل زراعة كيان غريب داخل الجسد المصري الذي كان يجب اضعاف مناعته للسماح للوافد الغريب بالتمركز في هذا الجسد المنهك. كل هذه المحاور تقودنا إلي ما يسمي بتجديد الخطاب الديني وهو أمر يستوجب خطوات استباقية مهمة تتمثل في: ■ منع استخدام الخطاب الديني سياسيا. ■ منع احتكار الخطاب الديني. ■ منع التمييز والاستعلاء والطائفية باستخدام الخطاب الديني. ■ إيقاف مساعي فرض خطاب ديني مخالف لأصل الهوية المصرية الأصلية. هنا لابد أن نعي حقيقة مهمة وهي أن الخطاب الديني يجب ألا يتم تصنيعه بمعرفة المؤسسات الدينية أو بواسطة من يعرفون بعلماء الدين، بل يجب ان يكون جزءا من العقد الاجتماعي الحاكم للعلاقات داخل الدولة، ليكتسب صفة الإلزام للجميع بمن فيهم تلك المؤسسات الدينية التي يجب ألا نطلب منها جهدا لتجديد هذا الخطاب، كما لايصح ان ننتظر منها خطوات جادة في هذا الصدد بل يجب أن نكفل انصياعها كغيرها من المؤسسات والأفراد داخل الدولة بالعقد الاجتماعي. هنا تظهر مسئولية الدولة وقدرتها علي حماية هذا العقد. المدهش انه طوال هذه السنوات وبرغم كثافة الاستهداف فإن الشخصية المصرية اثبتت وعيها بخصوصية هويتها، وتجلي هذا الوعي القومي في لحظة 30 يونيو امتدادا إلي 3 يوليو عام 2013، ليطيح الشعب المصري بالتنظيم الإخواني الذي ظن انه قادر علي ممارسة الاستعلاء علي المصريين باسم الدين ويلبسه الوهم انه يستطيع العبث بهذه الهوية وإذابتها في كيان أممي، لاحظ هنا الدور البارز وقتها لاعتصام المثقفين قبيل 30 يونيو وتذكر كيف اشتدت الأزمة علي هذا التنظيم العصابي بعد أن دخل في مواجهة مباشرة مع صناع المادة الخام للقوي الناعمة المصرية من الفنانين والمثقفين المصريين. تذكر كيف استطاع الشعب وقتها الالتفاف مرة أخري حول جيشه رغم عمليات التشويه الممنهجة لتلك العلاقة عقب أزمة 2011، والأكثر دهشة أن عملية الالتفاف شملت الشرطة المصرية رغم قسوة وعمق الجراح التي حدثت عشية 28 يناير، وبعدها التف الجميع حول الوطن في لحظة توحد تاريخية متفردة ربما أزعجت الكثيرين الذين صدمتهم صلابة الهوية رغم حملات التجريف عبر عقود متواصلة. استنادا لثورة 30 يونيو فإن »الفريضة الغائبة» بفعل وحجم عظمة هذه الثورة أصبحت حاضرة، لإعادة بناء الانسان المصري الذي اثبتت شخصيته أنها مازالت ثابتة علي أساسات من مخزون حضاري وامتداد لموروث من الثقافة والفنون والآداب ضارب في عمق التاريخ، وعلي هذه الأساسات الصلبة يمكن إعادة البناء والترميم في مواجهة حملات الطمس والتشويه التي اشتدت بعد صدمتها بفعل ثورة الدولة المصرية في 30 يونيو ولعل تكون البداية هي ضرورة إدراك أسباب وأهداف هذا الاستهداف وتحديد أطرافه وأدواتهم وبالتالي إمكانية تحديد أساليب المواجهة. والآن ومع بداية الولاية الثانية للرئيس عبدالفتاح السيسي نحن علي موعد مع »الفريضة الحاضرة» لتحصين وإعادة ترميم الشخصية المصرية التي كانت ومازالت رهانا رابحا لحفظ كيان الدولة وأمنها القومي، الآن ودون تأخير علي الدولة أن تبدأ في خارطة طريق بناء الإنسان المصري تعتمد علي الآتي: ■ تأسيس حركة مسرحية واعية تخاطب وجدان وعقول الشعوب وتحول خشبات المسارح إلي ساحات للحوار والنقاش والدعوة للتفكير. ■ تدخل الدولة بكل أدواتها لحماية المنتج الدرامي وضمان قدرته علي الانتشار وبالتالي تحقيق التمويل الذاتي. ■ إدراج اكتشاف رعاية الموهوبين والمبتكرين ضمن بنود التوصيف الوظيفي للمحافظين. ■ تدخل الدولة بقوة القانون وبقوة المؤسسات لفرض الخطاب الاجتماعي والديني المعبر عن حقيقة الشخصية المصرية ليكون ملزما للجميع بمن فيهم المؤسسات الدينية. ■ إطلاق المشروع القومي لتوثيق جرائم التنظيم الإخواني التي استهدفت طمس الهوية المصرية علي أن يكون التوثيق مدرسياً وجامعياً ودرامياً وإلكترونيا. ■ تفعيل الدستور والقانون بسرعة إلغاء الأحزاب الدينية والمنع التام للممارسة السياسية علي أساس ديني والقضاء التام علي المكون الديني في السياسة. ■ حتمية امتلاك الدولة أدوات تواصلها الإلكترونية لرصد حملات تشويه واختراق وطمس الهوية. ■ امتلاك الدولة بما يمكن أن نسميه »مرصد الهوية» للوقوف علي معدلات وآثار وتأثيرات تفاعلها مع الثقافات الاخري. ■ اتاحة الانفتاح علي الثقافات المختلفة، الوقوف علي خصائصها وتحديد أنسب الطرق للتعامل معها. ■ وضع رادع قانوني لأي أفكار طائفية تهدف للتشويش علي أصل هذه الهوية. لهذه الأسباب ولهذه الأهداف ربما كان حديث الرئيس السيسي خلال خطاب التنصيب للولاية الثانية بوضوح عن ضرورة بناء الإنسان المصري، راجع النص ستجده يتحدث بعبارات مباشرة عن عملية البناء الإنساني عقليا وثقافيا لإعادة تعريف الهوية المصرية من جديد بعد محاولات العبث بها، هكذا قال الرئيس نصا. انطلاقا من هذا الخطاب فإن الجميع الآن قد وضع أمام مسئوليته الإنسانية في الالتزام بثوابت العقد الاجتماعي الذي يجب ألا يكون فيه مكان لفرض وصاية دينية من أي شخص أو أي مؤسسة، ليس هذا فحسب بل أن الخطاب تحدث بوضوح أيضا محذرا من محاولات إسقاط الوطن من خلال المتاجرة بمزاعم الحرية والديمقراطية التي استغلها البعض في السنوات الأخيرة لفرض نماذج معلبة لدعوات انفتاح وتحرر لا تنسجم مع أصل الهوية التي لها ثوابتها وخصائصها. الآن نحن جميعا مدعوون إلي موعد مع العقل، إلي موعد مع قيمة الإنسان المصري الذي كان ومازال قادرًا علي صياغة مبادئ الإنسانية في قوالب من الفنون والثقافة والآداب والعمارة، فقدم للإنسانية بأسرها نموذجا عمليا للتعايش والتسامح ليثبت ان مصر هي مهد الإنسانية بفطرتها السليمة.