إدارة الأزمات... هذا المصطلح العلمي الذي أصبح يطل علينا من حين لآخر، خاصة مع ظهور أي مشكلة سواء كانت علي المستوي المحلي أو العالمي. فلقد أصبحت الأزمات... واحدة من مفردات العصر الحديث... بل يذهب البعض لاعتبارها مرض العصر. فالكل يتعرض للأزمات؛ الشركات، والهيئات، والمؤسسات، بل وحتي الدول صغري كانت أو كبري. ولقد تعرضت مصر، مؤخراً، إلي أزمتين، إحداهما هي خطف الطائرة المصرية والهبوط بها في قبرص، وقد أدارات مصر هذه الأزمة بجدارة، وحققت نتائج إيجابية علي مختلف الأصعدة. أما الأزمة الأخري فهي مقتل الشاب الإيطالي في القاهرة، والتي لم تُدر بطريقة علمية سليمة، لذا جاءت نتائجها السلبية مؤثرة علي مصر، وأعتقد أن ذلك الأثر السلبي سيمتد لفترة طويلة. وتتعدد أنواع الأزمات لتشمل الأزمة السياسية، والأزمة الاقتصادية، والأزمة الدستورية، والأزمة الأمنية، والأزمة الإرهابية، وغيرها من أزمات الكوارث الطبيعية، أو الصناعية. كما تصنف الأزمات، كذلك، إلي أزمات داخلية وأزمات خارجية، باختلاف طابعها سواء عدائي أو غير عدائي، تنقسم من حيث الحجم إلي أزمات بسيطة، أو أزمات كبيرة، ذات أبعاد مختلفة. بل تطرق الأمر إلي حدوث أزمات فردية، أو أزمات مركبة، يكون أطرافها عناصر متعددة، متشابكة المصالح... والأهداف. ولعل أشهر أزمات التاريخ المعاصر، والتي لفتت الأنظار، بعدها، إلي ضرورة أن تصبح إدارة الأزمات علم يدرس في كافة المعاهد الاستراتيجية حول العالم، هي تلك الأزمة التي شهدها العالم علي مدار ثلاثة عشر يوماً، في الفترة ما بين 16-28 أكتوبر من عام 1962، عندما فوجئت الولاياتالمتحدة، خلال حملة الانتخابات الأمريكية، بأن السوفيت قد نصبوا صواريخهم في كوبا، علي بعد 90 ميلا من سواحل ولاية فلوريدا. فأطلقت الولاياتالمتحدة طائراتها ال U-2 للتجسس، وعادت لتؤكد وجود تلك الصواريخ السوفيتية، بالفعل، وهو ما يعد، قطعاً، تهديداً للأمن القومي الأمريكي. ومن هنا كانت الأزمة، التي بدأت يوم 16 أكتوبر 1962، وانتهت، رسمياً، يوم 20نوفمبر من نفس العام، وأطلق عليها اسم »أزمة الكاريبي»، أو »أزمة الصواريخ الكوبية»، تلك الأزمة التي أوشكت علي إشعال حرب عالمية ثالثة، بل وحرب نووية، كانت ستفتك بكل الأطراف..ولقد جاءت هذه الأزمة بعد محاول الولاياتالمتحدةالأمريكية إسقاط النظام الكوبي، بقيادة فيدل كاسترو، عن طريق عدة عمليات، كان أشهرها »غزو خليج الخنازير» “Bay of Pigs Invasion”. بدأ، بعدها، الاتحاد السوفيتي في بناء قواعد صواريخ نووية، قصيرة المدي، تتيح له ضرب الأراضي الأمريكية، رداً علي التصرف الأمريكي بنشر صواريخ له في كل من بريطانيا، وإيطاليا، وتركيا، لتصبح له القدرة علي توجيه ضربات عسكرية لموسكو، باستخدام أكثر من مائة صاروخ، مزودة برؤوس نووية. الأمر الذي دعا الرئيس نيكيتا خروشوف إلي التحالف مع كوبا، وإرسال الصواريخ السوفيتية، لتهديد الأمن القومي الأمريكي. وجاء التوقيت الحقيقي للأزمة يوم 14 أكتوبر، عندما أكدت صور الاستطلاع الأمريكية، وجود القواعد الصاروخية النووية السوفيتية. علي الفور، أصدر الرئيس الأمريكي جون كينيدي قراره بتشكيل فريق لإدارة الأزمة، وإنشاء غرفة عمليات لإدارتها، واستمع الرئيس الأمريكي لمقترحات مرؤوسيه في غرفة إدارة الأزمة. فكان المقترح الأول هو توجيه ضربة جوية-بحرية أمريكية، لتدمير هذه القواعد، إلا أن الرأي استقر، في النهاية، علي فرض حظر عسكري علي كوبا، وطالبت الولاياتالمتحدةالأمريكية، الاتحاد السوفيتي بتفكيك تلك القواعد الصاروخية. والواقع، أن إدارة الرئيس جون كينيدي للأزمة، كانت مثار إعجاب الشعب الأمريكي، حيث انعكست رباطة جأشه علي فريق إدارة الأزمة، وهو ما ساهم في اتخاذ القرارات الحاسمة بهدوء، دون تعريض أمن وسلامة الولاياتالمتحدةالأمريكية إلي مخاطر الحرب النووية. كما قام الرئيس الأمريكي بتوجيه خطاب إلي الشعب، تحدث فيه بكل صراحة... وجرأة... عن الأزمة، وأعلن تأهب الجيش الأمريكي للقيام بعمل عسكري، وأنه فضل عدم شن ضربات جوية أو بحرية ضد كوباً، مكتفياً بفرض الحصار. ورغم إعلان خروشوف رفضه للمطالب الأمريكية علناً، إلا أن الاتصالات السرية كانت مفتوحة، بين الأطراف، للوصول إلي حلول لتلك الأزمة. ويقال إن الأمريكان انتهجوا سياسة الوصول إلي حافة الهاوية، لإجبار السوفيت علي التراجع. وهو ما قد كان لهم في ظرف أسبوعين، إذ قام الاتحاد السوفيتي بتفكيك جميع صواريخه ومعداته في كوبا، وتم تحميلها علي ثمانية سفن سوفيتية، في الفترة من 5 إلي 9 نوفمبر 1962. وبعدها بشهر، تم إنهاء الحصار علي كوبا. ولقد خرج السياسيون من هذه الأزمة بفكر جديد، وهو إتاحة الفرصة للخصم لإيجاد حل يتيح له الخروج من الأزمة، بما يحافظ علي كبريائه... فقد أشاعت الولاياتالمتحدةالأمريكية موافقتها علي نقل الصواريخ النووية الموجودة علي حدود تركيا في مواجهة الاتحاد السوفيتي، في مقابل سحب السوفيت لصواريخهم من كوبا... والحقيقة أنه لم يكن هناك أية صواريخ أمريكية علي الحدود التركية... إنما خرج هذا التصريح حفاظاً علي ماء وجه الاتحاد السوفيتي. ولقد تسبب هذا الاتفاق في حرج بالغ لخروشوف والاتحاد السوفيتي، حيث اعتبر الروس هذا الحل، عار عليهم. ولقد تنحي خروشوف عن الحكم، بعد مرور عامين علي تلك الأزمة (وإن كان جزئياً)، فقد اتهم خروشوف بالإسراع في وتيرة الأزمة في البداية، ثم ما لبث أن قدم تنازلات للولايات المتحة الأمريكية في النهاية. وبدراسة، وتحليل هذه الأزمة، نجد أن هذه الأزمة أديرت، من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية، بصورة مثالية، حيث تم إنشاء مركز لإدارة الأزمة في البيت الأبيض، وتم تشكيل فريق لإدارة الأزمة، وتم اقتراح سيناريوهات وبدائل لحل الأزمة، فضلاً عن تسمية الرئيس الأمريكي متحدثاً رسمياً عن طاقم إدارة الأزمة، مهمته التواصل مع الجهات الإعلامية عما يدور في غرفة الإدارة. كما تم تشكيل مجموعة للتفاوض، قامت بالاتصال بالجانب السوفيتي، وهو ما أدي، في النهاية، إلي الوصول إلي مخرج لهذه الأزمة، بما لا يضع الاتحاد السوفيتي في موقف ضعيف. فقد اقترح المفاوض الأمريكي علي الجانب السوفيتي، أن تسحب موسكو صواريخها من كوبا، وفي المقابل تعلن الإدارة الأمريكية أنها ستقوم بسحب صواريخها من قاعدة أنجرليك التركية، التي تهدد أمن الاتحاد السوفيتي. مع العلم بأنه لم يكن هناك أية صواريخ أمريكية في تلك القاعدة التركية، إلا أن ذلك كان مبرراً لحفظ ماء وجه الاتحاد السوفيتي أمام الرأي العام المحلي والعالمي. وعلي المستوي الأمريكي والسوفيتي، كان أهم درس مستفاد هو ضرورة وجود الخط الساخن بين الرئيس الأمريكي والرئيس السوفيتي، ليكون صمام الأمان لأي مشكلة تقع بين القوتين الأعظم مستقبلاً. في أعقاب هذه الأزمة، انتبهت المعاهد الاستراتيجية، وجهات الأمن القومي في كافة بلدان العالم، لأهمية الاستفادة من تلك الأزمة، وتطوير مفهوم إدارة الأزمات، ليصبح علماً أساسياً من علوم الدفاع والأمن القومي، له أسس وقواعد وأصول يبني عليها، في المعاهد الاستراتيجية والكليات العسكرية حول العالم كله. واليوم، في أكاديمية ناصر العسكرية العليا في مصر، تدرس دورات إدارة الأزمات، ودورات التفاوض. ولقد أصبح الأساس للاستعداد لحدوث أي أزمة مستقبلاً، ضرورة توفر عناصر أساسية، أهمها تشكيل طاقم لإدارة الأزمة، ووجود مقر دائم لإدارة الأزمات، مزود بأحدث وسائل تكنولوجيا العصر في الاتصالات، والقدرة علي تخزين أكبر حجم من البيانات، مع أهمية الإعداد المسبق لسيناريوهات الأزمات المحتملة مستقبلاً. فضلاً عن تشكيل طاقم للتفاوض، وفقاً لطبيعة الأزمة، مع تعيين متحدث رسمي للتواصل مع الإعلام في كل ما يخص تلك الأزمة. مع ضرورة الاحتفاظ بالدروس المستفادة من الأزمات السابقة، والرجوع إليها دوماً لتفاديها مستقبلاً، والتحديث الدوري للبيانات الموجودة في مركز إدارة الأزمات كل ستة أشهر علي الأكثر. وأخيراً، ضرورة التواصل المستمر بين الإدارة والمواطنين، بكل شفافية، ومصداقية، خلال مراحل تطور الأزمة. وعموماً، فقد تطورت مراكز إدارة الأزمات، الآن، لتصبح علي مستوي الدول، والمحافظات، والوزارات، والهيئات، وأي مؤسسة قد يري رئيسها أنها قد تتعرض لأية أزمات في المستقبل. ولنا لقاء، في العدد القادم، عن أسلوب إدارة الأزمات من الناحيتين، العلمية، والعملية. وكذلك أساليب عمل مجموعات التفاوض خلال الأزمات، آملاً أن تكون هذه المقالات بداية لفكر جديد في ضرورة التعامل مع الأزمات في مختلف هيئات ومؤسسات الدولة المصرية... لتدخل مصر عصراً جديداً من العلم، تحت شعار... إدارة الأزمة بأسلوب علمي، بما يجنب الدولة الكثير من المخاطر.