المفكر والفيلسوف العربي ابن رشد يقول: "التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل"، لذا فمن المستحيل أن نقضي علي آفة الإرهاب، ونجتز الفكر الأصولي المتطرف، دون محاربة جرثومة الجهل والتخلف والأمية. وهذا لن يتأتي سوي بالانتصار للعقل والوعي، وإذكاء المنطق والعلم، بدلا من الاكتفاء بترديد نفس عبارات التنديد والاستنكار والأسف بعد كل حادث إرهابي، وتكرار مقولات من نوعية "الإرهاب ليس له دين أو وطن"، فكل هذا وذاك لن يصلح ما أفسدته عقود من الاستسلام والرضوخ والتراخي، وسنوات من مهادنة الأفكار الأصولية، والكف عن إعمال العقل والتأويل، والصمت والعجز أمام ما أفرزته الجماعات الظلامية من أفكار تكفيرية وإرهاب، ومن عقول تتوهم إن لديها تفويضاً إلهياً للتحدث باسم الدين، وتظن أنها تمتلك صكوك الغفران ومفاتيح الجنة والنار!! وهنا أشير إلي حوار المفكر الكبير د. مراد وهبة مع الإعلامي أحمد موسي، ودعوته لإحياء فكر الفيلسوف ابن رشد، لإيجاد تيار فكري مستنير يتصدي للفكر الأصولي المتطرف، ومطالبته للمجلس الأعلي لتنظيم الصحافة والإعلام، باستثمار الفضائيات في الترويج للذهنية الرشدية، بوصفها السوق الجماهيرية الأكثر تأثيرا في المجتمع، وترسيخ تلك البنية الفكرية الجديدة في أذهان البسطاء، من خلال تعاون الإعلام مع الثقافة الجماهيرية، ليؤثرا بدورهما علي التعليم الذي تسيطر عليه شبكة من أعضاء تنظيم جماعة الإخوان، تحكم قبضتها علي قطاعات الوزارة . والسؤال الذي يطرح نفسه: هل بإمكان أي تيار جديد مواجهة التيارات الأصولية المتدثرة بعباءة القداسة؟! وهل تستطيع الأفكار الجديدة منازلة تلك الأفكار القديمة المستترة خلف العقيدة والدين؟! أم أن تلك الحرب الفكرية غير المتكافئة تفضي بالضرورة إلي سلسلة من التنازلات والترضيات، تصل بنا في نهاية المطاف إلي حرب تكفيرية !! لذا استدعي كلمات للشيخ أمين الخولي تقول: أن الأفكار حين تجد في العقل خواء وتصادف في الدماغ خلاء، تعشعش وتستقر حتي ليصعب إخراجها وانتزاعها من العقل، مهما كانت درجة زيفها،وتزداد حدة استقرار الأفكار في العقول والأدمغة عن طريق التكرار المستمر لها، والترديد الدائم الذي يحول "الفكرة " إلي ما يشبه "العقيدة " الثابتة التي لا يجوز مناقشتها أو الاقتراب بمنهج التحليل النقدي من حدودها، وكثيرة هي الأفكار التي أنتجتها عقول بشرية في تاريخ ثقافتنا العربية والإسلامية، لكنها تحولت بفضل التكرار والترديد إلي عقائد لا يمكن المساس بها! وهكذا يري الشيخ الخولي أن منهج التجديد لا يستقيم ولا يصلح إلا بعد "قتل القديم بحثا"، حيث إن البحث النقدي التحليلي للأفكار والمسلمات القديمة، من شأنه أن يكشف جذور هذه الأفكار، ويفصح عن دلالتها في سياق تكونها التاريخي والاجتماعي، ويزيل عن الأفكار القداسة التي تراكمت من جراء الترديد والتكرار، وتشويه الأفكار الأخري، وبذلك يردها إلي أصولها بوصفها "فكرة " وليست "عقيدة "! وهنا تستطيع الأفكار الجديدة المناقشة والمساجلة علي أرض الفكر وميدان الصراع الفكري، وليس علي أرض العقيدة وميدان الدين، أما إذا انجرف الصراع عن أرضه وميدانه الحقيقي، فإن الصراع يفضي دائما إلي تمكين القديم من إزاحة الجديد، كما أن أنصار القديم يمكنهم - بدعوي الدفاع عن الدين والعقيدة - تأليب العامة، والمؤسسات الدينية والاجتماعية والتعليمية والتربوية، دفاعا عن أسس الكيان الاجتماعي ودعائمه المهددة بتلك الأفكار الجديدة التي توصف بالعلمانية والإلحادية والشيوعية وغيرها. وهكذا يصبح الجديد دائما في حالة دفاع عن النفس، ويصبح مطالباً بإثبات أن أفكاره لا تمس الدين، والتأكيد علي أنها لا تطال قداسة العقائد الدينية، مما يؤدي إلي انخراط المفكر في إنتاج خطاب وعظي إنشائي عقيم، ينضوي علي التراجع والاستسلام، ويمكن القديم من إزاحة الجديد، بل وقتله نهائيا، ناهيك عن اغتيال المفكر المجدد !! يا سادة .. إننا لن نستطيع إفساح الطريق للأفكار الرشدية المستنيرة، وتجديد الخطاب الديني وإعمال العقل، ما لم نحارب التخلف والجهل، ونقتل الأفكار الأصولية العقيمة، ونخلع عنها رداء القداسة!! وللحديث بقية