صباح 7 أكتوبر عام 1973 كانت مصر قد استقرت بإرادتها أعلي الضفة الشرقية بعدما سيطرت علي مسرح العمليات، الانتصار المصري أحدث صدمة للعالم الذي وقف مذهولا أمام السؤال الجوهري الذي فرض نفسه »كيف تمكن المصريون من عبور الهزيمة نفسياً قبل عبور القناة عسكرياً؟!». وقتها وقف المتربصون بمصر محاولين فك ألغاز هذه الإرادة التي تمكنت من تحويل المستحيل إلي واقع فرض نفسه بقوة علي أرض المعركة، ولابد أن هناك من هؤلاء المتربصين من أدرك أن هذا الشعب إذا حدد هدفه وامتلك إرادته والتف حول قيادته فإنه قادر علي تحقيق المستحيل ولا يمكن كسره أو هزيمته، فكان القرار هو ضرورة الانهزام النفسي لهذا الشعب القادر علي إنتاج هذه الإرادة، منذ ذلك الحين والحرب الاجتماعية بدأت مستهدفة الشخصية المصرية. استهداف الشخصية المصرية اجتماعيا كان هدفه تشتيتها وإفقادها طريقها نحو وطنها وبالتالي اهتزاز مفهوم الانتماء للوطن داخل وجدانها فلا تصبح قادرة علي امتلاك إرادتها والسيطرة عليها واستخدامها لخدمة وطنها وقت الحاجة إليها، إذن كانت الحرب الاجتماعية تهدف لتفكيك مفهوم الانتماء واستنزاف رصيد الوطنية الاستراتيجي الذي تراكم بعد نصر أكتوبر، التمهيد النيراني لتلك الحرب الاجتماعية تم من خلال منهج تفكيكي طويل المدي ارتكز علي ما يلي: دعم الثقافات الوافدة الناشئة حديثاً والإيحاء بقدرتها علي مناطحة الثقافة المصرية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ. تسطيح المنتج الفني والثقافي والفكري. الاستهداف الشخصي للرموز الوطنية وتشويهها. دعم الجماعات التي تحاول فرض هوية جديدة لتشكيك المجتمع في عقيدته. التشكيك في انتصارات الوطن المصري ونسج الأكاذيب حول كوّن انتصار أكتوبر نفسه قد تم باتفاق لتحريك المنطقة، حتي إن بعضهم اخترع مفهوماً جديداً بعنوان »حرب أكتوبر تحرير أم تحريك»، كما لو كانت هزيمة الجيش الإسرائيلي التي سيوثقها التاريخ يمكن أن تكون قد تمت باتفاق. فرض صور ذهنية سلبية للرؤساء المتعاقبين كما لوكانت وظيفتهم فقط هي الانصياع للتبعية الأمريكية وخدمة المشروع الصهيوني. دفع المواطن المصري نحو الاغتراب داخل وطنه من خلال تضخيم حالة من الفساد والمحسوبية وانعدام تكافؤ الفرص والترويج لذلك بادعاء أن الدولة تمارسه عمداً ضد طبقات بعينها في المجتمع. تسطيح العملية التعليمية وغزوها بأنماط تعليمية أجنبية باعتبارها تعليماً راقياً. فرض أنماط سلوكية غريبة بدءاً بتشويه العامية المصرية، وصولاً إلي استخدام المصطلحات الأجنبية المخالطة للعامية المصرية باعتبارها دليلاً علي الرقي الاجتماعي. علي مدار أربعين عاماً والشخصية المصرية تتعرض لقصف اجتماعي مكثف. عملية استهداف الشخصية المصرية التي تمت بشكل ممنهج أدت لما يلي: شعور المواطن باليأس والإحباط وغياب العدالة. فقدان الثقة بين المواطن وحكومته. الشعور بانحياز الدولة لرجال الأعمال. اللجوء إلي التدين الظاهري الذي يفصل بين العبادات والمعاملات. اختلال منظومة القيم والأخلاق. انتشار ظاهرة المثقف النظري المنفصل عن محيطه. تراجع القدرة علي تقديم القدوة. اتساع الفجوة بين الأجيال وبالتالي تراجع قيمة الأسرة. صعود القيم المادية والرغبة في الإثراء السريع. كل هذه النتائج أدت إلي خلل جسيم في التكوين النفسي والذهني للشخصية المصرية انعكس علي علاقتها بمفهوم الدولة علي نحو سلبي حاد بعدما تم إفقاده الشعور بأهمية هذه الدولة في حياته. عملت الحرب الاجتماعية منذ البداية علي الدفع بأنماط ونماذج سلوكية وثقافية متضاربة بهدف تفتيت وحدة الذوق المصري ووحدة المزاج العام وبالتالي منع أي مشروع يمكن الالتفاف حوله، بدأ من موجة الأغاني الهابطة التي استخدمتها طبقات معينة للتعبير عن هويتها التي تميزها عن باقي المجتمع، مروراً بحركة مسرحية مشوهة حولت قاعات المسارح إلي ما يشبه الملاهي الليلية، وصولاً إلي جمهور كرة القدم الذي تم تصنيف أحد طوائفه صراحةً بعبارة جمهور الدرجة الثالثة فتحولت العبارة من تعبير عن قيمة مادية إلي التعبير عن هوية اجتماعية لمرتادي تلك المدرجات، ثم انتقلت الحرب إلي ملعب الدراما المصرية التي قدمت نماذج سلوكية سلبية وربطتها بقيم البساطة والتواضع ودعمها مجموعات من الممثلين الذين عمدوا إلي بناء شهرتهم وانتشارهم من خلال تقديم أعمال فنية لإرضاء ذوق هذه الطبقة بتجسيد شخصيات جاذبة لها أو تستخدم أسلوباً يشوه العامية المصرية كنمط كوميدي، فخلقت نوعاً من الطبقية الثقافية والفنية التي زادت من حالة التفكك المجتمعي بعدما أدرك من يدير تلك الحرب أن مصر بلد اللا طائفية واللا قبيلة ولا يمكن تفتيته عقائدياً فوجه مجهوداته نحو عملية التفكيك المجتمعي. ثم ازدادت شراسة تلك الحرب بالدخول في مرحلة تشكيك المجتمع في ثوابته العقائدية والدينية لتوسيع مساحات التفكيك والإمعان في طمس الهوية حتي يمكن اعادة البناء المشوه بعد تسطيح الثقافة التاريخية القديمة للمجتمع المصري.. وربما تمثلت مظاهر تصاعد شراسة الحرب فيما يلي: أوائل تسعينيات القرن الماضي احتلت اهتمام الصحف ووسائل الإعلام ما تم فرضه علي المجتمع من ادعاء بوجود مجموعات لما يسمي عبدة الشيطان، ولم يسفر الفحص حينها عن اعتناق عقائدي انما خلل اخلاقي ناتج عن غياب دور الأسرة. تزايد الاحتفاء بظاهرة المشاهير من البلطجية وتقديم بعضهم كأبطال شعبيين ورواية أساطير عنهم لم تحدث أساساً. صناعة حكايات درامية عن بعض رجال الأعمال باعتبار أن قوتهم ليست مستمدة بالأساس من ثرواتهم المتراكمة بل من قدرتهم علي خرق القانون بالتواطؤ مع بعض كبار المسئولين في الدولة. الترويج لشيوع أنماط منظمة لجرائم زنا المحارم أو تبادل الزوجات. ومؤخرا الزخم الإعلامي لحفل يروج للشذوذ علي أرض مصر. كل تلك الحالات تم تصنيعها لفرض نماذج مسلكية يمكن أن تحظي تدريجيا بنسبة (أي نسبة) من القبول في المجتمع المصري لزيادة الخلل الاجتماعي لوحدة المجتمع. كل تلك النماذج والحالات نجحت في استدراج المجتمع المصري واقتياده إلي مساحة الخلل العقائدي التي تجيد الجماعات المتأسلمة الحركة فيها، وتستغلها في العبث المنظم داخل العقول الشابة التي تعاني أزمة البحث عن الهوية المفقودة، بعدما توحي لها أن المخرج الوحيد من حالة الشتات هو العودة إلي مرجعية دينية تراثية والتخلي عن الهوية المحلية، لتجد تلك العقول نفسها أمام حالة منفصلة عن سياقها الزمني تتطور بعد ذلك إلي مرحلة منحهم لأنفسهم الحق في تكفير المجتمع ثم الحق في الوصاية علي المجتمع والاستعلاء عليه، كما تضع الدولة والمجتمع كله موضع المتهم المفرط في صحيح الدين، وتستمر تلك الحالة في التطور وصولا إلي ترسيخ مفهوم أن الدولة الحالية ما هي إلا كيان بشري نشأ لتعطيل وإعاقة انتشار الدين وبالتالي فإن حربها عمل شرعي جائز. التوصيف علي النحو المشار إليه وأمام هذه الحالة فإن المسئولية الوطنية تستوجب علي الجميع أن يتصدي لدوره في إنقاذ أبنائه وأحفاده، تستوجب علي الجميع الالتفاف حول دولة القانون والإصرار عليها، تدعو إلي مشروع قومي لحفظ الهوية المصرية، تستدعي حركة ثقافية عاجلة مستندة لرصيد مهول من المعرفة، ذلك لأن محاولات فرض أي هوية وافدة لن تنجح إلا علي أنقاض الهوية الأصيلة للدولة المصرية التي تقوم أساسا علي التنوع والتعددية والتي يجب أن يحفظ بقاءها إطار قانوني محدد وملزم للجميع.