الحكمة والعدالة أساس النظام الإلهي في الميراث أولي دعائم نظام المواريث في الإسلام، أنه بتنظيم إلهي، حكيم وعادل، فقام النظام فضلاً عن الدقة والإحكام علي معايير غاية في الحكمة والعدالة في توزيع الأنصبة أو الفروض، ولذلك يسمي أيضًا » علم الفروض »، وقَدَّمَ أصحاب الفروض علي مَن عداهم، ورَاعَي في أنصبة أصحاب الفروض اعتبارات لا تتعلق بالذكورة والأنوثة، وإنما بدرجة القرابة وقوتها، مع العناية الملحوظة بأن تكون أنصبة المقبلة عليهم الحياة أوفي من المدبرة عنهم، فنجد كلاًّ من الأب والأم والجد الصحيح والجدة الصحيحة لا يرث إلاَّ السدس فرضًا، بينما نري مثلاً أن كلاًّ من الابنة أو بنت الابن ترث النصف فرضًا، وسوف نري أن هناك حالات ترث فيها الأنثي مثل الذكر، وحالات أخري ترث أكثر منه، وحالات ترث فيها الأنثي ولا يرث نظيرها من الذكور. وسوف نري أن النظام الإلهي قد راعي في تقسيم مراتب الإرث اعتبارات لا تفوت المتأمل المتمعّن الدارس. منها علي سبيل المثال: أنه أنصف المرأة من حرمانها من الميراث الذي كان سائدًا عند العرب في الجاهلية، وقرر لها فروضًا وأنصبة في الميراث، يأثم التارك أو المخالف لها، ومما قيل في مناسبة نزول الآيتين 11، 12 من سورة النساء، إن امرأة » سعد بن الربيع » ذهبت إلي الرسول عليه الصلاة والسلام، شاكية إليه أن عَمَّ ابنتيه قد انفرد بأخذ كل ما تركه أخوه الذي استشهد في غزوة أُحد، لم يترك لابنتي أخيه الشهيد شيئًا علي العادة التي كانت جارية في الجاهلية، فلما نزلت الآيتان المقررتان لمبادئ وقواعد الإرث العادل الحكيم، أرسل الرسول عليه الصلاة السلام إلي عمِّ البنتين يأمره: » اعط ابنتي سعد الثلثين، واعط أمهما الثمن، وما يبقي من التركة فهو لك ». أنه وضع أسسًا محكمة لتوزيع الإرث، قوامها أولا أنه » لا تركة إلاَّ بعد سداد الدين »، وأول هذه الديون التي يجب استيفاؤها أولاً هي الديون المتعلقة بالتركة، والديون الثابت صحتها، وديون المرض الذي عساه يلم بالمورث قبل وفاته، وتنفيذ الوصايا التي تركها ولكن في حدود ثلث التركة، وما زاد علي ذلك غير جائز ولا يحتج به علي الورثة. وزع الورثة تبعًا لأسباب الميراث إلي ثلاث فئات: (1) الزوجية بالفرض. (2) القرابة بالفرض أو التعصيب أو بهما معًا أو بالرحم، فورَّثَ قرابة ذوي الأرحام كالإخوة والأخوات بأن جعلهم من أصحاب الفروض، وقسم الإرث بين الذكر والأنثي بالتساوي إذا ما انفردا، فإذا تعددوا يتساوون جميعًا في النصيب، يستوي في ذلك الرجل والمرأة. راعي في تحديد الأنصبة مقدار الحاجة، آخذًا في الاعتبار أن المقبل علي الحياة أكثر احتياجًا من المدبر عنها، فجعل نصيب الفروع (كالأولاد والبنات) أكبر من نصيب الأصول (كالأب والأم والجدين)، مع رعاية مَنْ تكون تبعاته وأعباؤه أكثر. لم يفرق في التوزيع بين الذكر والأنثي كأساس كما يظن البعض، وإنما أعطي سبحانه وتعالي الأقرب فالأقرب، من غير تفرقة بين صغير وكبير، فالأولوية بالجهة، فإن اتحدت فبالدرجة، فإن اتحدت فبقوة القرابة، فإن اتحدت فبالاشتراك. في الوقت الذي رتب فيه المستحقين إلي مراتب تسعة بدءًا بأصحاب الفروض، كما سيجيء، فإنه سن قاعدة أن ستة من الورثة لا يُحْجَبون البتة حَجْب حرمان، هم: الابن، والبنت، والأم، والأب، والزوجة، والزوج فلا يُحْجَب أحدٌ من هؤلاء حَجْبَ حرمان لأي سبب من الأسباب، ما لم يكن هناك مانع من الميراث كما سيجيء، لأنهم أولي القرابات بالمورث الذي لاقي ربه. الورثة مراتب تسعة في هذا النظام الإلهي، الحكيم العادل، قُسِّمَ الورثة إلي مراتب تسعة: الأولي: أصحاب الفروض: وهم (1) الزوج (2) الزوجة، (3) البنت (4) بنت الابن، (5) الأخت الشقيقة (6) الأخت لأب (7) الأخت لأم (8) الأخ لأم (9) الأب (10) الأم (11) الجد الصحيح (12) الجدة الصحيحة فلكل من هؤلاء فرض مقدر يتم استيفاؤه أولا في توزيع التركة، ويسبقون من ثم من عداهم إذا ما استغرقت فروضهم كل التركة. الثانية: العصبة النسبية (بعد أصحاب الفروض)، وهم أقارب المورث من الذكور الذين لا تتوسط بينهم وبينه أنثي، كالابن، وابن الابن، والأخ الشقيق أو لأب. وهؤلاء يأخذون ما يتبقي من التركة » تعصيبًا » بعد أصحاب الفروض. الثالثة: الرد علي أصحاب الفروض السالف بيانهم غير الزوجين. وذلك إذا لم يوجد عصبة نسبية ولم تستغرق الفروض كل التركة، فيرد الباقي علي أصحاب الفروض غير الزوجين. الرابعة: ذوو الأرحام. وهم أقارب المورث الذين ليسوا أصحاب فروض ولا عصبيات كبنت الأخ، والعمة، والخالة، وابن البنت، وابن الأخت . الخامسة: الرد علي أحد الزوجين إذا لم يوجد سواهم يُرَد عليهم من أصحاب الفروض، وإذا لم يعد هناك ورثة غيرهم فإنهم يأخذون نصيبهم فرضًا وباقي التركة ردًّا. السادسة: المعتق وعصبية المعتق من الذكور، ويُعْرَفون بالعصبية السببية، ولم يعد لها وجود بعد انتهاء الرق. السابعة: المقر له بنسبٍ فيه تحميل النسب علي الغير، كالإقرار لأحدٍ بأنه أخ أو عم أو ابن أو ابن أخ، فإن هذا الإقرار يترتب عليه تحميل النسب علي غير المقر في إقراره. الثامنة: الموصي لهم بأكثر من ثلث التركة. التاسعة: الخزانة العامة، أو بيت المال وفقًا للتعبير القديم. موانع الإرث علي أن هناك موانع تمنع من الإرث إذا توافر أحدها أو أكثر، كأن يكون الوارث قد قتل المورث عمدًا بغير عذر ولا ضرورة ولا في دفاع شرعي، واختلاف الدين، فلا توارث بين مسلم وغير مسلم، أما اختلاف الدارين فلا يمنع من الإرث بين المسلمين، ولا يمنع بين غير المسلمين إلاَّ إذا كانت شريعة الدار الأجنبية تمنع توريث الأجنبي عنها، من باب المعاملة بالمثل . • لا أريد، ولا يقتضيه المقام أو يتسع له المجال، أن أشغل القارئ بأنصبة أصحاب الفروض، ولا بأحوالهم، ولا بقواعد الحجب بنوعيه: حجب الحرمان وحجب النقصان، وبغير ذلك من تفاصيل الأحوال والتعامل مع التركات، ولا الوصية الواجبة وحكمة مشروعيتها وكيفية تنفيذها، وحسب القارئ أن يعرف أنها تشمل بعض أقارب المتوفي من غير الوارثين كأولاد الأبناء وأبنائهم وإن نزلوا، وأبناء الطبقة الأولي للبنات، حيث تجب لهم وصية واجبة في حدود التركة ولو لم يوص بها المتوفي، وكل ذلك وغيره علي ما سوف نري، يؤكد دقة وإحكام وعدالة قواعد الإرث الإلهية، ويؤكد فساد المظنة بأن قواعد الإرث القرآنية قد ميزت الذكر علي الأنثي، فذلك ظن فاسد، وأفسد منه ما يقترحه المنبرون بغير بصيرة، فضلاً عن الجهل بأحكام القرآن الحكيم في هذا الباب.