حفظ النسل ( 4 ) من المتفق عليه أن »حفظ النسل» من المقاصد الأساسية للإسلام وشريعته وحفظ النسل هو حفظ للنسل ذاته، ولكيان الأسرة، ولسلامة وقوة المجتمع.. ومن غير المنطقي أن يُنْظر إلي النسل مجردًا عن غايته ومقاصده، وهذه المقاصد تتبلور في بذل كل ما يجب لتهيئة الظروف لطيب منبت النسل، بما يكفل سلامة تكوينه البدني النفسي، وصحة رعايته وتربيته وتنشئته وتعليمه، وحمايته مما قد يعترضه من أمراض أو أوبئة أو أخطار، أو مما يمكن أن يصيب نفسيته من أسقام تؤذيه وتعيقه عن أن يكون نافعًا لنفسه ولأسرته ومجتمعه. ويتسع مدلول »حفظ النسل » كمقصد أساسي للشريعة الإسلامية، لكفالة هذا الحفظ في مراحل النسل : جنينًا ثم وليدًا ثم طفلاً ثم صبيًّا ثم فتًي إلي آخر مراحل حياته، فالنسل ليس محض عددٍ أو كثرة عددية، فالعدد قد يتحول إلي عبء لو افتقد الصلاحية البدنية والنفسية وأعوزته الكفاءة العقلية والمعرفية.. فبناء ورعاية الفرد في الإسلام، فرعٌ علي مقصد »حفظ النسل»، ومن يتأمل في الإسلام يري أنه جعل صلاح » الفرد » الإنساني هدفه وغايته، في تكوينه وفي تنشئته ورعايته وكفالته، متتبعًا إيَّاه في كل مرحلة من مراحل حياته منذ الحمل فيه حتي مفارقة الحياة الدنيا. من حفظ النسل، كفالة العلاقة التي تأتي به، لحفظ الأنساب وحمايتها من الاختلاط، أو من العلاقات غير الشرعية التي تورث النسل عقدًا وأسقامًا نفسية، أو مما يسمي بالاستنساخ أو التلقيح وما يحمله من احتمالات يدفع الجنين (الوليد) ثمنها، فضلاً عما هو مثار عن الجمع بين خلية للرجل لتوضع في رحم امرأة من محارمه المحرم زواجه منها، أو ما يجري أحيانًا من أخذ الخلية من أنثي والبويضة من أنثي أخري ثم تزرع بعد التلقيح في رحم أنثي ثالثة، فضلاً عما في هذه الصورة من حرمان »الوليد» القادم من الانتماء إلي أب وأم تربط بينهما » المودة والرحمة » في إطار علاقة سوية مشروعة، وأسرة معنية برعاية فلذاتها حَمْلاً وولادة ورضاعًا وتنشئةً، محوطين بالعطف والحنان الأسري، والظروف الأسرية السوية. رابطة الزواج وكيان الأسرة كيان الأسرة، فرع علي مقصد » حفظ النسل »، وقد أورد الإسلام قرآنًا وسنة ما يكفل هذا الكيان الذي سوف يتوالد منه النسل، وهو بهذا يرعي النسل من قبل أن يكون نطفةً ثم علقةً ثم مضغةً. اقتضت العناية بالنسل، أن يولد لأم صالحة تلده وترضعه وتحتضنه وترعاه، ممن قال القرآن الكريم فيهن : » فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ » (النساء 34)، واعتني الإسلام بسلامة محيط تكوين الأجنة، فلم يترك علاقة الوالدين دون إرشاد وتوجيه » وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًي فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّيَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ » ( البقرة 222 ).. وكما اعتني الإسلام بتكوين الجنين، اعتني بحسن اختيار » اسم » المولود الذي سوف يواجه به الدنيا.. حتي كان النبي يغير الاسم القبيح، ويوصي المسلمين فيقول لهم : » إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم ».. » من حق الولد علي الوالد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه ».. لا يتركه الإسلام حتي في رضاعه وفطامه ليوفر له الأساس الصالح من بدايات تكوينه بعد ميلاده، فيقول القرآن المجيد : » وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا » ( الأحقاف 15 ).. يوصي الوالدات بإتمام هذا الرضاع وعدم تعجيل الفطام، فيقول العزيز الرحمن : » وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَي الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ »( البقرة 233 ).. وفي سورة لقمان : » وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ » ( لقمان 14 ).. هذه الرعاية ليست نتفًا متفرقة تأتي في الإسلام عفوًا، وإنما هي أصداء نظر شامل ومنظومة متكاملة.. يتوالد الأبناء في كنف أمهات وآباء، يتلقون منهم الحنان والبرّ والعطف والرحمة، ويقابلون برّهم بالاحترام والإحسان وخفض الجناح لهم.. أبناء اليوم هم آباء ثم أجداد الغد، ومن هؤلاء وأولاء أنشودة الحياة التي يتغياها الأبرار ويدعون ربهم أن يمن بها عليهم : » وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ » ( الفرقان 74 ).. قرة الأعين معنًي عريض يعبر عن تكوين نابع من إحسان الأدب والتربية، وفيض الرحمة والحنان.. في الحديث : » إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو الله ».. صلاح الأولاد ليس ضربة حظ وإنما هي صناعة وتربية ومجاهدة.. في الحديث » أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم ».. هذا التأديب شامل للأدب الخلقي وللبناء النفسي والبدني علي السواء.. ففي الحديث الشريف : » حق الولد علي الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي ».. » علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل ».. مع هذه التربية تتواكب التربية الأخلاقية، فيقول رسول القرآن : » ما نحل والد ولدًا من نحل، أفضل من أدب حسن ».. الولد ينشأ ويتكون علي ما تلقاه وتعلمه وتأدب به من والديه.. أو كما يقال في الحِكَم والأوابد والأمثال : » كما تدين تدان » !!.. كان من دعائه ووصاياه : » رحم الله والداً أعان ولده علي بره ».. » أعينوا أولادكم علي البر ». الإعانة علي البر عطاء إيجابي مانح، يعين المتلقي علي احسان التفكير وإحسان الخلق والفعل والسلوك ! دخل الأقرع بن حابس علي النبي ، فوجده يقبل حفيده الحسن بن علي، فقال الأقرع مندهشا : » يا نبي الله. لي عشرة من الولد ما قبلت واحدًا منهم ! ».. فيقول له الرحمة المهداة : »ولكنّا والله نقبل أولادنا.. من لا يرحم لا يُرحم.. ». زواج وعلاقات المثليين ولأن المقصد الإسلامي هو حفظ النسل، لم يكتف فقط بالنهي عن العلاقات غير المشروعة بما يترتب عليها من نشأة النسل في محيط فاسد لا تتوافر فيه عناصر الأسرة السوية الصالحة، وإنما يترتب علي هذا المقصد رفض علاقات المثليين، وهي علاقات انحدرت بعض المجتمعات إلي إباحة الزواج عنها، بين الرجل والرجل وبين المرأة والمرأة. مرجع الرفض الإسلامي أن هذه العلاقات المثلية أيًا كان شكلها أو رباطها، لا تتغيّا نسلاً، بينما المقصد حفظ النسل، وإنما هي محض شهوة للشهوة تهبط إلي دون مستوي الحيوان الذي لا يعرف إلاَّ علاقة الذكر بالأنثي، ولذلك وتبعًا لذات المقصد حرم الإسلام الممارسات الجنسية الشاذة غير السوية. العناية بالنوع الإنساني وقيمه الاجتماعية نفهم أن من » حفظ النسل » كمقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية أن تحقيقه لا يقتضي فقط علي ما تقدم مما اعتني الإسلام بتوفيره من عناصر لكفالته، بل امتدت عنايته في إطار هذا المقصد إلي حماية الأسر، وحماية الأعراض والشرف والاعتبار، ليكفل للأسرة ما يحميها من غوائل السب والقذف والطعن في الأعراض، وهذه الحماية تنحل إلي حماية للمجتمع برمته، وتصب في النهاية في مصلحة النوع الإنساني كله، فالناس جميعًا قد خُلقوا من نفس واحده، وجعلهم الله تعالي شعوبًا وقبائل ليتعارفوا. حال المجتمع الإنساني الواسع، كحال الأواني المستطرقة، يصاب ما تصاب به وحداته، ومن هنا كان » حفظ النسل » حفظًا للمجتمعات الإنسانية، وتعبيرًا عن كرامة الإنسان الذي كرمه الله تعالي، وقال في قرآنه الكريم » وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَي كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً » (الإسراء 70).