بين آفة التطرف وتحديات التصدي للإرهاب الفكري نواصل فتح ملف مواجهة الأفكار المتطرفة، التي تهدد أمن وكيان الوطن ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، وأمنيا، لم يعد الإرهاب يهدد وطنا بعينه أواتجاها فكريا معينا، وإنما صار كابوسا يهدد العالم أجمع، مما يحتم تشكيل مجلس أعلي لمواجهة التطرف والإرهاب، لإيجاد صيغة شاملة ووضع خطة عاجلة للحد من هذا التسونامي، الذي يكتسح العالم ولا يفرق بين اليابس والأخضر في حرب عمياء بلا قلب. كان لابد من الوقوف ضد هذا العدومع آراء وأفكار المثقفين وأصحاب الفكر المتجدد التقت أخبار اليوم مع د. شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق وصاحب كتاب »التفسير النفسي للتطرف والإرهاب» الذي صدر مؤخرا عن مكتبة الإسكندرية، حول أخطر قضية تواجه الوطن والعالم، في محاولة لإيجاد صيغة استراتيجية مجتمعية شاملة يمكن ان نواجه بها هذا العدوالشرس من خلال تعاون كل أجهزة الدولة. في البداية سألت د. شاكر عبد الحميد: • التطرف خطر يهدد كيان الوطن، كيف يمكن مواجهة الأفكار المتطرفة؟ - ينبغي مواجهة التطرف في إطار استراتيجية مجتمعية شاملة تقوم علي أساس التنمية الشاملة والتطوير الشامل المستمر للمجتمع، ولن يكون هذا كله ممكنًا إلا من خلال تعاون أجهزة الدولة ممثلة في وزارات التربية والتعليم والتعليم العالي والشباب والرياضة والثقافة والأوقاف ومعها الأزهر والكنيسة وغيرها معًا، وأن يقوم المجتمع كذلك علي أساس العدالة الاجتماعية ومحاربة حقيقية للفساد ورغبة حقيقية في القضاء علي مشكلة البطالة التي أراها أهم مشكلة تواجه الدولة في هذا الامر، بالإضافة إلي تطوير التعليم والثقافة وغيرها. الثقافة هي الحياة للثقافة دور أساسي في مواجهة الإرهاب ... كيف يتم ذلك؟ وهي خارج تشكيل المجلس الأعلي لمحاربة التطرف والإرهاب؟ - للثقافة دور مهم جدًا في هذا الأمر، علي أن نعرف ونعترف بأن مفهوم الثقافة أوسع من المفهوم الخاص بوزارة الثقافة، فالثقافة في جوهرها تحتوي علي ثلاثة مكونات أساسية هي: التراث وأساليب الحياة والإبداع، يتعلق التراث بالماضي وتتعلق أساليب الحياة بوسائل التفاعل الاجتماعي الحالية وممارسات الناس المتعلقة بالطعام والشراب والملبس وتبادل الحوار والنظام والنظافة ومحبة الفن والجمال والقيم السائدة ورؤيتهم لواقعهم ولحياتهم وعلاقاتهم وغير ذلك من الأمور المميزة، والتي تجعلنا نقول إن هذا الشعب يتسم مثلاً بدافعية عالية للإنجاز أويتسم بالكسل والتراخي والتواكل، وذلك الشعب مؤكد لذاته وواثق من نفسه وذلك يشعر بالخوف والحيرة وفقدان اليقين والميل إلي التشكك في كل شيء يتعلق بحاضره ومستقبله، بالطبع الحاضر يتأثر بالماضي والحاضر والماضي يؤثران علي المستقبل، سواء كان ذلك المستقبل متعلقًا بالإبداع في جميع المجالات أومتعلقًا بما ستكون عليه حياة الناس بعد سنة اوبعد عقد من الزمان. إذًا الثقافة هي الحياة، ووزارة الثقافة تقدم دورًا مهمًا يتعلق بتوفير المناخ المناسب الذي يمكن أن يزدهر فيه الإبداع، ووزارة الثقافة تهتم كذلك باكتشاف الموهوبين والمبدعين وتشجيعهم من خلال الجوائز والمسابقات ونشر الكتب والإبداعات التشكيلية وغير ذلك من الأمور، ولذلك فهي تقوم بدور مهم وينبغي علي الدولة أن توفر لها إمكانيات أكثر في ظل تراجع مواردها بعد انفصال وزارة الآثار عن وزارة الثقافة وفقدان الأخيرة لحوالي مائة مليون جنيه كانت تأتيها من الآثار، وأيضًا فإن وزارة الآثار نفسها تحتاج إلي المساعدة في ظل انهيار السياحة بعد ثورة 25 يناير 2011 وقلة الموارد التي كانت تأتي إليها منها. أعتقد أن وزارة الثقافة لا يزال عليها عبء كبير في مواجهة التطرف والإرهاب وهي تحتاج من الدولة أن تدعمها أكثر من ذلك، لكن ما أعرفه أن وزارة المالية قد خفضت ميزانيات بعض القطاعات في وزارة الثقافة وهذا أمر يحتاج إلي المراجعة والتراجع. تمثيل ثقافي معقول أما عن عدم تمثيل وزارة الثقافة في المجلس الأعلي لمحاربة التطرف والإرهاب، فهناك وزير سابق هوالصديق الدكتور صابر عرب، وهناك أيضًا الشاعر الكبير فاروق جويدة، وأعتقد انه وبالمعني السابق للثقافة هناك تمثيل معقول ولكننا كنا نطمح إلي أن تكون الوزارة ممثلة من بعض قياداتها أومن وزيرها، وهوالكاتب الصحفي حلمي النمنم، في هذا المجلس، وله كتابات مهمة في هذا الأمر، وكذلك كنا نتمني أن يزداد تمثيل عدد علماء النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد فيه أيضًا، لكني أعتقد أن هذه هي الهيئة العليا وأنها ستقوم بتشكيل لجان فرعية يمكن أن يتم تمثيل وزارة الثقافة وغيرها منها علي نحوأكبر. »سمِّن كلبك يأكلك» ما هي آليات محاربة الفكر الإرهابي علي المستوي القومي والمحلي؟ - أعتقد أن الموضوع بالغ التعقيد وليس بالبساطة التي يظنها البعض، فهناك دول تدعم الإرهاب وتدعي أنها تدافع عن الديمقراطية، وهناك دول أسهمت علي نحومباشر في تفريخ منظمات إرهابية كالقاعدة كما فعلت الولاياتالمتحدة في أفغانستان ثم انقلب القاعدة عليها علي طريقة »سمِّن كلبك يأكلك»، أما آليات محاربة الفكر الإرهابي، فهناك آليات تتعلق بالمواجهة الأمنية والعسكرية وهي ليست كافية في ظل غياب التنمية المجتمعية الاقتصادية والتربوية والتعليمية والثقافية الشاملة، وفي ظل غياب شعور الناس بأنهم يقفون علي أرض ثابتة تتعلق بحاضرهم ومستقبلهم، كذلك ينبغي أن يقوم الإعلام بدوره المهم في هذا الأمر من خلال محاولته تصحيح صورة الإسلام والمسلمين في العالم، والتي نجح الإعلام الغربي، وبعض القنوات العربية وبعض المنظمات الإرهابية التي تدعي أنها تنتمي للإسلام في جعل الصورة الذهنية النمطية عن الإسلام صورة نمطية تربطه دائمًا، وفيما يشبه الارتباط الشرطي في تجارب بافلوف وغيره، بالإرهاب والتطرف، وتتسم مثل هذه الصور الذهنية النمطية في العادة بالنزعة التبسيطية والتي تقسم العالم إلي لونين: أبيض وأسود، وإلي متطرفين ومعتدلين، إلي شياطين وملائكة، وللأسف أصبحت كل الصفات السلبية تلتصق الآن بالإسلام، والصور الذهنية النمطية، من طبيعتها أيضًا أنها عدائية وسلبية وتقاوم التغيير ومن ثم كانت صعوبة تغييرها الآن، وهوالأمر الذي سيحتاج بطبيعة الحال إلي وقت طويل وجهد جماعي، قومي وعالمي، كبير أيضًا. هذا علي الرغم من معرفة الجميع أن التطرف الذي حدث عبر تاريخ العالم، ولا يزال يحدث الآن ومعه الإرهاب، ليس مرتبطًا بدين بعينه ولا بديانة بعينها ولا بثقافة دون غيرها. كيف يكون للمثقف دور في هذه المواجهة؟ - دور المثقف هنا أن يكون منتميًا للقيم الإنسانية ومدافعًا عنها، أن يكون منتميًا لقيم الخير والحق والجمال والعدل والتسامح والتكامل الإنساني، دوره أن يدافع عن رحابة الأفق وعن العدالة الاجتماعية والديمقراطية وحرية التعبير، دوره أن يسهم في تعزيز ثقافة الإبداع التي هي ثقافة مغايرة تمامًا لثقافة التطرف والإرهاب، فالإبداع تفكير في نسق مفتوح يهتم بالتنوع والكثرة والاختلاف بين وجهات النظر، بينما التطرف والإرهاب تفكير في نسق متعلق يقوم علي أساس أحادية التفكير والنمطية والتكرار والتفكير المقولب المعلب النمطي الجاهز المعد سلفًا الرافض للرأي المغاير والمعادي للخيال والاحتمالات المتجددة في الحياة، فهوتفكير قطعي يري أن العالم قد اكتمل وأن هذا الكمال موجود في الماضي، أو في العالم الآخر، وأن كل ما علي الإنسان أن يفعله أن يجتر الماضي ويكرره لا أن يفكر فيه ويغيره، كذلك فإن الإبداع مستقبلي في جوهره لكنه لا يهمل الماضي أوالحاضر أوينكرهما بل يعتمد عليهما ثم يضيف إليهما، هكذا كان نيوتن يقول لمن يمتدح انجازه في نظرية الجاذبية: لوكنت قد رأيت أبعد، فذلك لأني أقف علي أكتاف السابقين عليّ. الإبداع في جوهره نسبي ترجيحي احتمالي ديمقراطي الطابع يتقبل الرأي ونقيضه، أما التطرف فعدائي تسلطي، الإبداع يبني ويطور والإرهاب يهدم ويدمر، وهناك فروق اخري كثيرة درسها علماء الإبداع وأكدوا خلالها أهمية المرونة في التفكير والتي هي ضد الانغلاق والتصلب ودوائر الوعي المحدود الجامدة المغلقة المميزة للمتطرفين والإرهابيين. ليس مرضاً نفسياً هل يمكن اعتبار التطرف من الأمراض النفسية؟ - بعض العلماء يقولون إن التطرف انغلاق في الذهن وبعد عن الواقع وانفصال عنه قد يؤدي إلي أمراض مثل الفصام، والبعض الآخر يري أن التطرف هومزيج من الشعور بالاضطهاد والتفوق في الوقت نفسه، وهذه من خصائص البارانويا، ولكن لأن التطرف يضع خططًا وبرامج تدميرية وينفذها فهويحتاج إلي نوع من الاستبصار والوعي، صحيح أنه عقل شيطاني، لكنه يبعده عن التصنيف الخاص بالفصام، ويجعله أقرب إلي النمط شبه الفصامي، أي الذي يسلك سلوك الفصاميين المتبلدين وجدانيًا المنفصلين عن الواقع والحياة، لكنهم لم يقعوا بعد في براثن المرض النفسي. البعض الثالث يقول إن التطرف مزيج من السيكوباتية (المرض النفسي المتسم بالتبلد الوجداني وعدم الاستفادة من الخبرات الماضية وكذلك النزعة العدائية للمجتمع) وكذلك السوسيوباتية (الأمراض الاجتماعية التي يتفاقم خلالها الشعور بالظلم والاضطهاد والإقصاء عن مراكز السلطة والثروة ومصادرهما). هكذا ينبغي أن يقوم المجلس الأعلي لمحاربة التطرف والإرهاب بدراسات اجتماعية ونفسية موسعة وشاملة ودقيقة عن هذه الجوانب الملازمة للتطرف والإرهاب. ما علاقة أصحاب الأفكار المتطرفة بالسلطة والحكم؟ - هم ببساطة يريدون الوصول إلي السلطة والحكم من خلال أساليب عدوانية عنيفة ومدمرة، يتظاهرون بالدين ويستخدمون وسائل تنكرها الأديان، يشعرون بالخيرية والملائكية وأنهم أصحاب رسالات مقدسة وغايات سامية، بينما تكون أعمالهم مناقضة لكل ما هوخير أوملائكي أوإنساني أومرتبط بالحضارة الإنسانية، يستخدمون تقنيات العلم الحديثة (الموبايل وشبكات التواصل الاجتماعي والكمبيوتر والفضائيات) ويهاجمون من ابتكرها وقدمها للإنسانية ويتهمونه بالكفر والفسوق وأن مكانه النار وسوء المصير. لذلك فإنهم يرون من في الحكم، أيًا كان النظام والأفراد، عدوًا لهم، بينما يظنون أنهم، ولأسباب ومعتقدات سياسية وأخلاقية ودينية متميزة وخاطئة، أجدر منه، ومن ثم ينبغي إبعاده بكل الوسائل الممكنة، لأنهم أفضل منه وأكثر خيرية وأصحاب رسالة وتفوق وامتياز وتاريخ لا يتوفر لهذا النظام أوذاك، إنها تلك النمطية الجامدة في التفكير ذاتها يتم تعميمها في جميع المجالات. لابد من تصدي المجتمع بكل أطيافه للأفكار المتطرفة... كيف يكون للشباب دور وخاصة أنهم أكثر الفئات المستهدفة؟ - ينبغي أن نعرف أن كلمة شباب في اللغة قد جاءت من كلمة نار، فالنار عندما تتقد وتتوهج وتشتعل بقوة يقال عنها إنها قد شبت، أي اشتدت، ومنها جاءت كلمة شباب، فمرحلة الشباب هي مرحلة التوهج والقوة والحماس، وفي مرحلة الشباب يزداد نموالجسم علي نحوكبير وينموالنسق القيمي والأخلاقي والديني للأفراد، كما يتغير تفكيرهم ويتطور علي نحوهائل، وأكثر من نصف إبداعات البشرية عبر تاريخها حدثت في مرحلة الشباب، في هذه المرحلة ينضج التفكير الإبداعي والترجيحي والاحتمالي والنسبي والنقدي ويزداد نموالشخصية وكذلك الرغبة في الانتماء، وأول ما ينبغي أن نفعله للشباب هوأن نجعله سعيدًا، وقد قال فرويد لمن طلب منه تعريف السعادة: السعادة هي أن تعمل وأن تحب، فالعمل أساسي والقضاء علي مشكلة البطالة أمر جوهري حتي يستطيع الشباب أن يعمل وأن يحب، أن يحب عمله وحياته وذاته وأسرته ومجتمعه ووجوده في هذا الكون، بدون العمل والحب، ستوفر مناخًا خصبًا للتطرف والإرهاب، لأن التطرف يعد الشباب بالعمل والحب والانتماء، إن لم يكن في هذه الدنيا ففي الحياة الأخري، فبماذا تعده أنت بينما يقضي هوحياته في الشوارع أوعلي المقاهي يشعر بالفراغ واللاجدوي؟ جاء في كتابك »التفسير النفسي للتطرف والإرهاب» أن الإبداع والموهبة والفن والثقافة الأساسية القائمة علي أساس المكاشفة والتصحيح الذاتي والمرونة السيكولوجية والسياسية للمجتمع تجاه قضاياه والتركيز علي المستقبل هي روشتة العلاج ضد هذا المرض الذي ينهش في عقل وضمير الإنسانية... كم يأخذ هنا العلاج من وقت حتي نقضي علي وباء التطرف والإرهاب نهائيًا؟ الإجابة موجودة في السؤال، أما الوقت فهومجرد عنصر من العناصر، والمهم ما يشغل الوقت من جهد وعمل حقيقي ومشروعات في المجالات التربوية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وأنا من المؤمنين بمقولة »أثر الفراشة» فالتغيير الإيجابي الذي سيحدث هناك سيحدث بالضرورة هنا ولوبعد حين، المهم أن نبدأ بالأفعال لا بالأقوال والمسكنات.