المتتبع لكتابات الناقد الكبير الدكتور شاكر عبدالحميد، وزير الثقافة الأسبق، سيدرك أنه طوال مسيرته أولى اهتماما كبيرا ل «علم نفس الجمال» و«التحليل النفسى للإبداع»، وظل يراوح لأكثر من أربعة عقود بين بساتين الأدب، ومدارات الفكر بأبحاث واعية، مرة بالتأليف وأخرى بالترجمة، وشاغله فى كل الأحوال نشر الوعى لا غير. فقدم لنا بدأب وإخلاص عشرات الكتب تنكب فيها خطى أهم علماء النفس، ورموز النقد والفكر. وفى كتابه الأخير «التفسير النفسى للتطرف والإرهاب» يطرح علينا رؤية عميقة حول ظاهرة الإرهاب، وجذورالتطرف، وكيف ينشأ، ولماذا استشرى أخيرا فى أنحاء العالم، فى محاولة لفهم أسباب تلك الكارثة التى تحيق بنا منذ عقود، ومازالت تداعياتها تتفاقم بلا توقف. قلت فى كتابك «التفسير النفسى للتطرف والإرهاب» إن الإرهاب طاعون العصر، يكره البهجة والابتسام والتغيير والإبداع، ويعشق الظلام والدماء والتشفي، يتقافز بين التفجيرات والاغتيالات والجثث والتكفير والتحريم والاكتئاب، يتبنى الأفكار الجامدة الهدَّامة، يمتلك المال والسلاح والحجج البالية، فهل يمكن استيعاب هذا الوحش وإيقافه؟ قلت كثيرا، وقال كثيرون غيري، لا يمكن مواجهة الإرهاب بخطط أمنية واستراتيجيات عسكرية فقط، رغم أهميتها الكبيرة، فالإرهاب غول وعنقاء هذا الزمان. ما إن تقتلها حتى تظهر لك مرة أخرى بين الرماد، مادامت البيئة صالحة لعودتها من جديد. المهم مواجهة الإرهاب بحروب استباقية نحشد فيها أسلحة الاقتصاد والسياسة والحرية والإبداع وتقوية مشاعر الانتماء وتعاون الوزارات والمؤسسات المعنية بالتعليم والرياضة والشباب والثقافة والمؤسسات الدينية وغيرها، وضرورة شعور الناس بجدوى ملاحقة الإرهاب والقضاء عليه من خلال شعورهم بأنه وحش يهدد حياتهم وحياة أبنائهم، ومستقبل الأرض التى يعيشون عليها، وذلك باستراتيجية شاملة تقوم على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية، واتساع سقف الحريات كما تمناه الناس بعد قيامهم بثورتين كبيرتين. دعنا نغُص فى نفوس أولئك الناس. ما الذى يجعل شخصا يفجر نفسه فى كنيسة أو كمين أمني، أو لاجئا إلى أوروبا يفجر نفسه فى ملهى أو محطة مترو.. كيف تفسر هذا؟ لابد من تحليل سرديات العنف المتطرف. العنف ليس احتكارا خاصا بالبشر، فهناك كائنات حية أخرى أكثر عنفا من البشر، لكن البشر وحدهم طوروا قدرات عليا ميزتهم عن الكائنات الحية الأخري، ومكنتهم من الإبداع والاختراع وبناء المدن وشق الطرق وتشييد الجسور والمتاحف وغيرها، وهم أيضا الذين ابتكروا أسلحة الدمار الشامل وغير الشامل، ولعب تميزهم بالخيال دورا إيجابيا ودورا سلبيا، فى الابداع الذى طور الحضارة الانسانية من العصور البدائية والعيش فى كهوف واستخدام الأدوات الحجرية، وغيرها من الاختراعات التى ننعم بها الآن كالسينما والتليفزيون والسيارات والطائرات ووسائل العلاج المتقدمة. وهذا الجانب من الخيال إيجابى وفعّال، أما الجانب السلبى فيتعلق بسرديات العنف، كحكى القصص والحكايات للأطفال والمراهقين ذوى الميول للعنف والإيحاء بأنهم سيرفلون بنعيم الجنة إذا قتلوا الآخر المختلف فى الدين أو المذهب، بحيث يكون قتله حلالا ويكونون هم أبطالا أو شهداء، وسرديات العنف هذه موجودة عبر تاريخ البشرية، وهذا موجود فى أديان أخرى غير الإسلام، وعقائد سياسية كالنازية وأيديولوجيات التفوق العرقى والدينى والتاريخي. بظنك كيف يتم تجنيد أولئك الشباب بهذه الأعداد؟ وكيف تتم شيطنة الآخر؟ دوافع هؤلاء الشباب لابد أن ندرسها، منها مثلا ما قاله أحد علماء النفس «ليون فستنجر» حول أن الأفراد يلتحقون بالجماعات التى يعتقدون أنها ستزودهم بالمعايير التى تتفق ومعتقداتهم الخاصة وميولهم، وتبعدهم عن التنافر المعرفي، أى يبحثون عمن يوجههم إلى الاتساق بين أفكارهم وما تربوا عليه، فيقولون إنهم لايجدون معنى لحياتهم ولاقدوة، فتلتقطهم الجماعات المتطرفة وتقوم بما يشبه عمليات غسل المخ حتى يصلوا إلى نوع من الانسياق المعرفى المتوهم فيعتقدوا أنهم ملائكة أو أن عليهم إنقاذ البشرية حتى لو كان ذلك بالعنف والقتل والتدمير، وباسم حبهم لله تتولد كراهيتهم للآخر، وباسم الدين يرتكبون كل ما تحرمه الأديان، بجانب عوامل أخرى قد تساعد فى عملية التجنيد، مثل غياب الأب والقدوة، وتأثير الرفاق والصحبة، أو الفقر، أو وجود مشكلات بين الوالدين، والتربية الدينية الصارمة، والشعور بالاغتراب والغربة فى الوطن، ولا نقول إنها أسباب مباشرة للإرهاب والتطرف لكنها تربة خصبة لمثل هذه السلوكيات، وهناك آليات وأماكن تُسهل التجنيد، كأنشطة معينة فى أماكن العبادة تحرض على العنف والإرهاب بلسان دعاة متطرفين، وبعض المحاضرات العامة فى الجامعة أو النوادى لبعض الشخصيات الدينية، وكافيهات الإنترنت، ومواقع التواصل، وبيوت الشباب، والسجون، والفضائيات المتطرفة. وكيف تتم شيطنة الآخر؟ هذه مسألة كانت موجودة عبر التاريخ، فخلال الحروب الصليبية صُور المسلمون بصفات شيطانية وخلال الغزو الأمريكى للعراق أطلق شوارتسكوف قائد تلك العمليات صيحته الشهيرة «إيفى ماريا»: « عاشت أمى مريم»، ومريم الطاهرة منه براء، وخلال الثورة الفرنسية صُور النبلاء كأنهم من آكلى لحوم البشر، وفى الحروب عامة يُصور العدو بصورة شيطانية، تجمع مسخ الملامح وشناعة الأفعال، العرب فى التراث الأدبى والاجتماعى الغربى خونة، والهنود متعصبون دينيا يفتقرون إلى النظاقة، والصينيون ماكرون أشرار، والألمان والإنجليز باردون، والفرنسيون محبون للفن والأدب، بارعون فى الحب وهذه كلها صور ذهنية نمطية جامدة وغير حقيقية، ومعظمها تشوه الآخر المختلف وتحوله إلى شيطان ينبغى محاربته والقضاء عليه، وحديثا لعبت الأفلام السينمائية ومسلسلات الكوميكس المصورة وألعاب الفيديو ومواقع التواصل، والفضائيات دورا مهما فى تحويل المسلمين إلى شيطان العصر، بعدما تم التخلص من الشيطان السابق عليه وهو الشيوعية، والعجيب أن المسلمين لعبوا دورا كبيرا فى تكريس هذا التصور، بتدافع واندفاع بعضهم لدخول هذه الجماعات الإرهابية وتنفيذ عمليات انتحارية ليس لها مثيل فى التاريخ، والمخيف أن هذه الصور المشيطنة للآخر موجودة لدى المسلمين ليس فى مواجهة غيرهم، بل بداخلهم كما يحدث الآن فى حروب السنة والشيعة كما نرى فى العراق وسوريا واليمن. كيف يمكن أن يتحول الإنسان إلى مسخ، وكائن متطرف يمارس العنف، يجرد الآخر من إنسانيته دون شعور بالذنب، بعد كل الإنجازات التى حققتها الحضارة الانسانية؟. هنا لابد أن نلجأ إلى ما قاله عالم النفس الأمريكى «فيليب زيمباردو» فى كتابه «أثر الشيطان» (2007) وتتبعه كيفية تحول البشر الأتقياء الأنقياء الأبرياء إلى شياطين ظلامية، وصولا إلى عمليات التعذيب التى قام بها الجنود الأمريكيون للعراقيين فى سجن «أبو غريب» التى رآها العالم كله على شاشات التليفزيون، وكان موضوعا لتحقيقات داخل الولاياتالمتحدة، وقدم خلالها «زيمباردو» شهادته أمام الكونجرس الأمريكى وقال إن ذلك يحدث عبر عمليتين أساسيتين هما: «خلع الهوية»، أى تخلى المرء عن هويته السابقة، والتى كان فيها شابا يهوى القراءة ومتابعة كرة القدم ويدرس أو يعمل عملا ما، ثم يندرج فى جماعة تقدم له إغراءات مادية أو معنوية فيصبح عضوا منتميا إليها ويتخلى عن هويته الأولي. أما العملية الثانية فتتم عبر «تدريبات متدرجة» يتم خلالها توجيهه بالمحاضرات والأفلام إلى أن الآخر الذى سيحاربه يتسم بالقسوة والوحشية والعنف بل وتمتلك أسلحة دمار شامل وغازات الأعصاب والجمرة الخبيثة وغيرها، وإنه شديد الدموية يقتل الجميع بدم بارد، غير متحضر، سوف يبيدنا ذات يوم، وهكذا يتم تحويله إلى شيطان مخيف مجرد من الإنسانية أو وحش، ومن ثم ينبغى قتله. وعندما نقوم بذلك فإننا نقدم خدمة للانسانية أو للوطن، نصبح نحن الأبطال، وهكذا بسلسلة تبريرات وتزييفات للوعى يتم تكوين البنية الذهنية المعرفية الجامدة للمتطرف فى أى زمان ومكان. كيف تفسر إصرار الغرب على إلصاق هذا الاتهام الخطير بالإسلام والمسلمين والعرب، بينما يتناسى جرائم الاحتلال الصهيونى فى فلسطين؟ المسألة ليست بسيطة، فقد نجحت إسرائيل بفضل الدعم الغربى والأمريكى تحديدا فى إيجاد صورة ذهنية عنها كأنها واحة للديمقراطية فى المنطقة، بالرغم من أنها دولة عنصرية وعدوانية تحتل فلسطين، واستطاعت اللعب بنجاح غير مسبوق فى التاريخ بورقة معاداة السامية، واستخدمت كل الوسائط الإعلامية فى ترويج صورة سلبية صادمة عن الإسلام والمسلمين، حتى أصبح ينظر بتوجس إلى كل من يلبس جلبابا أبيض، أو له لحية طويلة حتى لو لم يكن مسلما، واعتباره إرهابيا، والحقيقة بعض المسلمين أسهموا بتكريس هذه الصورة، بسلوكيات وممارسات مظهرية جامدة فى المأكل والمشرب والتفكير والحريات، وهذه الصورة تحتاج سنوات طويلة لتغييرها. قلت فى كتابك أيضا إن الفهم العميق لظاهرة التطرف التى يعانيها العالم الآن، يقتضى دراسة أعمق لجذورها الأيديولوجية والاقتصادية والدينية والاجتماعية... إلخ، فكيف يمكن لأى جهة بحثية إنجاز هذه الخطوات؟. هذا يحتاج إلى فرق بحثية، وجهات ومؤسسات متعددة، وأعتقد أن الحل المناسب أن يتم تأسيس «مركز قومى لدراسات وأبحاث التطرف والإرهاب»، يتبع «المجلس الأعلى لمواجهة الإرهاب» الذى تم تأسيسه أخيرا، وينبغى القيام بدراسات ميدانية اجتماعية ونفسية حول الظاهرة، وتشجيع التأليف والترجمة فى هذا المجال.