رأينا كيف أنه من تسعة قرون سابقة، أبدع ابن القيسراني عالم الحديث الفقيه المتمكن، كتابه عن » السماع »، وكيف التقي وإياه فقهاء وأدباء، من أمثال الإمام » أبوحامد الغزالي » في مؤلفه الكبير » إحياء علوم الدين »، وابن عبد ربه في » العقد الفريد »، والنويري في » نهاية الأرب »، وغيرهم من ثقات العلماء . كتاب السماع وابن القيسراني اهتم ابن القيسراني بتأصيل ما أورده من واقع السنة والأحاديث والأثر الصالح، فأدار حول هذا كله بابًا كاملاً من كتابه الضافي » السماع » طفق يستعرض فيه الأحاديث النبوية التي وردت بصحيحي البخاري ومسلم، وأصول أدلة الإباحة عند الشافعي وابن عباس والشعبي، مبينًا علي سبيل الاستشهاد وما يصلح أولا يصلح له، بأنه لا تقبل شهادة إلاّ لشاهد العدل دون غيره، فالعدل هوالغاية الواجب تحققها فعلا ً، لا من يتظاهر بالورع تشيعًا للعامة واجتذابًا لرضاهم، وساق ابن القيسراني أمثلة من المرويات التي يستدل منها علي إباحة السماع، وقول الإمام مالك والإمام الشافعي في الغناء، وما روي عن مصعب الزبيري من أنه حضر مجلس مالك بن أنس فسأله أبومصعب عن السماع فقال : » أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك، ولا يبتعدون عنه ولا ينكره إلاّ غبي جاهل، أوناسك غليظ الطبع ».. وأورد ما روي عن سماع أحمد بن حنبل وسماع جماعته من العلماء للغناء، وتناول الضرب بالدف وغيره من الآلات الموسيقية، وأن مجرد كراهية إنسان لشيء بطبعه لا يوجب تحريمه، وأن تحريم الحلال كتحليل الحرام لا يجوز.. وقيام بعض الفقهاء بالتشدد في أمر الغناء وهومباح مرجعه إلي خشية أن يشتغل به الناس عما هوأهم، وليس بعالم من لا يعرف الحديث ويجيز صحيحه من غيره، وأن من يتتبع السيرة يري أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه والتابعين أمروا بالتسهيل ونهوا عن التضييق الشديد، وأنهم كانوا يمزحون ويلعبون . ويبين لمن يتأمل دوافع المضيقين أوالمتشددين أوالمحرمين، أن غايتهم كانت آنذاك منع الفسق والمجون، وقد يحدث الفسق والمجون بغير موسيقي وبغير غناء، وعلي ذلك فإن التحريم لا ينصب علي السماع ولا علي الموسيقي أوالغناء، وإنما علي الانحراف بهما للتهيئة إلي فسق أومجون، فإذا خلا السماع من أي شيء من ذلك، بقي علي ما هوعليه من إباحة هي الأصل.. هذا هو اجتهاد عالم من علماء الحديث في القرن الخامس الهجري، ورأينا معه اجتهادات الأقدمين الذين أعملوا أصول الفقه، فانتهوا علي الإجمال إلي إباحة لا تحريم فيها ما لم يكن فسقًا أومجونًا، وإليهما فقط ينصرف التحريم لا إلي الموسيقي أوالغناء، فماذا قال المحدثون من أهل العلم والفقه ؟ فتوي فضيلة الإمام الأكبر الأسبق شيخ الأزهر الشريف طالعت في المجلد العاشر للفتاوي الإسلامية طبعة المجلس الأعلي للشئون الإسلامية، فتوي مستنيرة لافتة، لفضيلة الإمام الأكبر الأسبق الراحل، المرحوم الشيخ جاد الحق علي، أفتي فيها بأن سماع الموسيقي وحضور مجالسها وتعلّمها أيًّا كانت آلاتها من المباحات ما لم تكن محركة للغرائز باعثة علي الهوي والغواية والغزل والمجون مقترنة بالخمر والرقص والفسق والفجور، أواتخذت وسيلة للمحرمات أوأوقعت في المنكرات أوألهت عن الواجبات، وأورد فضيلته أن ابن القيسراني نقل في كتابه » السماع » قول الإمام الشافعي : الأصل هوالقرآن والسنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وصح الإسناد فهوسنة والإجماع أكبر من خبر المنفرد، والحديث علي ظاهره، وإذا احتمل الحديث معاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به، فإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادًا أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع سعيد بن المسيب . وطفق فضيلة الإمام الأكبرالأسبق في فتواه الصادرة عام 1980 يعرض لما ورد عن الاستماع إلي القضيب ( آلة موسيقية وترية ) والأوتار، ليقول إنه لم يرد الشرع بتحريمها ولا بتحليلها، وكل ما أوردوه في التحريم فغير ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد صار هذا مذهبًا لأهل المدينة، لا خلاف بينهم في إباحة استماعه بإعتبار أن الإباحة هي الأصل العام . وأضاف فضيلة الإمام الأكبر الأسبق جاد الحق علي، أنه فيما يتعلق بالمزامير والملاهي، فقد وردت الأحاديث الصحيحة بجواز الاستماع إليها كما يدل علي الإباحة قول الله عز وجل : » وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ » ( الجمعة 11 )، فلوكان في الأمر تحريم لما اكتفت الآية بالعتاب، ولما عطفت اللهوعلي التجارة التي لا شبهة ولا خلاف في أنها حلال . فحكم المعطوف حكم المعطوف عليه وحلال التجارة مجمع عليه . وأشار الإمام الأكبر الأسبق إلي قول الغزالي السالف بيان بعضه، ونقل عنه قوله إنه فيما عدا الآلات الموسيقية التي من شعار أهل الشرب أوالمخنثين، فإنه يبقي علي أصل الإباحة .. كالدف وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب (نوع من الآلات الوترية )... وسائر الآلات، وأضاف الإمام الأكبر نقلاً عن القرطبي في الجامع لأحكام القرآن قول القشيري : » ضرب بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام يوم دخل المدينة فَهَمَّ أبوبكر بالزجر، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : » دعهن يا أبا بكر حتي تعلم اليهود أن ديننا فسيح » . ونقل عن الشوكاني أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أذن لمن نذرت أن تضرب بالدف بين يديه، في أن تفي بنذرها، والإذن منه يدل علي أن ما فعلته وأذن به ليس بمعصية، وأورد أن الشوكاني أشار إلي رسالة له عنوانها : إبطال دعوي الإجماع علي تحريم مطلق السماع . واستخلص ابن حزم في كتاب » المحلي »، أن مؤدي حديث : » إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوي »، أن العبرة بالنية في الاستماع إلي الغناء، فإن لم يكن لمعصية وفسق، وكان السماع بريئًا من المعصية، وكان للترويح أوالنشاط البريء، فإنه ينطوي علي طاعة وإحسان، وأنه حتي إذا خلا الاستماع من نية الطاعة أونية المعصية، فهولغومعفوعنه، كالنزهة والفرجة، وما إلي ذلك، فلا يرد عليه تحريم. وبغض النظر عن تفصيل الحديث في التعقيب علي كل آلة موسيقية إتباعًا لآراء في الزمن القديم عفي عليها الزمن، فإن جوهر ما خلصت إليه فتوي الإمام الأكبر الأسبق، ما ذكرته صريحًا من أن القول بتحريم السماع بإطلاق خالٍ من السند الصحيح، فالله تعالي يقول : » وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَي اللّهِ الْكَذِبَ » (النحل 116 ) . والقول بأن تحريم سماع الموسيقي أوتعلمها وحضورها من باب سد الذرائع أومن باب درء المفاسد المقدم علي جلب المصالح إنما هوقول غير مقبول، لأن الموسيقي وإن كان يمكن أن يصاحبها منكرات، إلاّ أن هذا ليس الشأن فيها دائمًا . ومن ثم كان شأنها كالجلوس بالطرقات، العبرة فيها بسلوك الجالس، ولا تثريب عليه إذا أعطي الطريق حقه . وعلي ذلك فإن المباح إذا صاحبه سلوك محرم، فإن النهي ينصرف إلي هذا السلوك المنهي عنه لا إلي ذاتية المباح . وانتهي فضيلة الإمام الأكبر جاد الحق علي في فتواه إلي أن سماع الموسيقي وحضور مجالسها وتعلمها أيًا كانت آلاتها من المباحات، ما لم تكن لتحريك الغرائز وبعث الغواية والمجون أومقترنة بالخمر والرقص والفجور والفسوق، أواتخذت وسيلة للمنكرات . وهذا الاستدراك الذي ساقته الفتوي ينصرف إلي المنكرات، ولا يمس الإباحة، وقد قال جل شأنه : » قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَي اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » ( الأعراف 32، 33 ) .. وقال ابن العربي في أحكام القرآن ( ج2 ص 782)، إن معاني » زينة الله » جمال الدنيا في ثيابها وحسن النظر في ملابسها وملذاتها، وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 8/105 ) إن الطيبات » في الآية تشمل كل طيب يطلق بإزاء المستلذ، ويطلق بإزاء الظاهر والحلال وصيغة العموم كلية تتناول كل فرد من أفراد العام » . ومؤدي كل ما تقدم، أن الاستماع إلي الموسيقي والغناء من المباحات غير المنهي عنها، وأن النهي هوعن الفسوق والمجون، وهوما قد يحدث بغير موسيقي وبغير غناء، ومن ثم ينصرف التحريم إلي هذا الجنوح، لا إلي الموسيقي والغناء والأصل فيهما الإباحة .