يملأ بعض الجامدين المتحجرين، وبعض الذين ينسبون أنفسهم للسلفية والسلفية بريئة من فهمهم يملأون الدنيا صياحًا بعدم شرعية المعايدة علي غير المسلمين، والتعامل معهم، ويحسبون مودتهم حرامًا محظورًا علي المسلم، أما أن يستخدم المسلم غير المسلم في عمله، أويستعين به عليه، فهومن المحظورات التي لا تَسامُح فيها ولا يجوز الإغضاء عنها، وقد اقترنت هذه المناداة بفتاوي جهولة، وبالاجتراء علي الروح الإنسانية بغير حق، وخلافًا لمبادئ الإسلام . يحدث ذلك في القرن الواحد والعشرين، ويتقدم بنا هؤلاء المبطلون إلي الخلف، ويجهلون ما أفتي به الأستاذ الإمام محمد عبده، وشيوخ المذاهب الأربعة، من أكثر من مائة عام، في فتوي مشهورة ومنشورة بسلسلة الفتاوي الإسلامية التي جمعتها دار الإفتاء في تسعٍ وثلاثين مجلدًا حتي الآن . سؤال قادم من الهند في أوليات القرن العشرين، ورد إلي أحد علماء الأزهر سؤال قادم من الهند، يسأل : ما الحكم في جماعة من المسلمين يقرون أنهم علي عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن تابعي فقهاء الأئمة الأربعة : مالك والشافعي وأبوحنيفة وابن حنبل، ويسعون في تحقيق الأُلفة بين أهل الإسلام، وأنهم في سبيل تحقيق ذلك يدعون أهل الثروة واليسار إلي تربية أيتام المسلمين وإلي إشاعة الإسلام في مقابل حملات المبشرين وصولات الوثنيين، إلاّ أنهم فيما يتساءل السائل أوالسائلون يستعينون بالكفار وغير المسلمين وأهل البدع والأهواء لنصرة الملّة الإسلامية، وجمع شملها واتحاد كلمتها . فهل مثل هذه الاستعانة فيما يطرح السؤال تجوز من المسلمين، وهل لها نظير في القرون الثلاثة الفاضلة المشهود لها بالخير ؟ وهل يجوز لأحد من المسلمين أن يعارضهم في هذه الأعمال المقرونة بالمقاصد الحسنة، ويسعي في تثبيط الهمم عن معاونتهم والتنفير من صحبتهم، والدعوة إلي عدم مخالطتهم، وما حُكم من يرمي هؤلاء المستعينين بغير المسلمين بالكفر والتضليل، وسوء الاعتقاد والخروج عن أهل السُّنَّة والجماعة . الأستاذ الإمام محمد عبده وشيوخ المذاهب الأربعة لم يشأ مفتي الديار المصرية : الأستاذ الإمام محمد عبده، أن ينفرد بالإجابة علي هذه التساؤلات، وآثر أن يستطلع وكتابةً آراء شيوخ المذاهب الأربعة قبل أن يدلي هوبدلوه، فأرسل بالتساؤلات إلي شيوخ هذه المذاهب، من فقهاء المالكية والشافعية والأحناف والحنابلة، ومكث ينتظر آراءهم في القضية المعروضة . إجابة المالكية والشافعية كتب علماء وفقهاء المالكية والشافعية في فضل أعمال البر والمعروف، وفضل تربية أيتام المسلمين، وأنه لا بأس من الاستعانة بجهود وأموال غير المسلمين فيما يعود بالخير والمصلحة علي الإسلام والمسلمين، وأنه لا غضاضة في هذه الاستعانة ما دامت لغير منفعة خاصة، وخالية من شبهة الإذلال والمهانة، وأنه من ثم لا نزاع في جواز هذه الاستعانة، واستدلّوا بما ورد في صحيح البخاري عن قبول النبي عليه الصلاة والسلام لما أهداه إليه » أكيدردومة » وهوعلي غير الإسلام، وبما جاء في تفسير الألوسي للآية 51 من سورة الكهف من أنه لا بأس من الاستعانة بغير المسلمين في أمور الدنيا، بل وأن الاستعانة بغير المسلمين في الغزوجائزة ما دامت الثقة قائمة، وأنه قد ورد عن بدر أن النبي عليه الصلاة والسلام استعان بيهود بني قينقاع، واستعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه في هوازن يوم حنين، وبأناس من اليهود في خيبر وأسهم لهم، وضربوا أمثلة بما ذكره البيهقي عن نص الشافعي عن خزاعة في عام الفتح من أنه عليه الصلاة والسلام إذا تفرس الرغبة، أي لمسها، فيمن جاءوا من غير المسلمين لمعاونتهم، فعدل عن ردهم رجاء أن يُسلموا، وبما رواه عن النبي ابن أبي الدنيا : » رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالي مداراة الناس »، وما جاء في رواية البيهقي : » رأس العقل المداراة » . واستفاض هؤلاء العلماء في إبراز الأدلة، وما سلكه عمر بن عبد العزيز مستدلاًّ بقوله تعالي : » فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ » (الزخرف 89)، وعلي ذلك فإن الاستعانة بغير المسلم المشار إليه بالسؤال مشروعة ولا بأس بها . وختم علماء المالكية والشافعية، بأن باب التكفير باب خطير ينبغي الاحتراز منه، وأن من يكفرون هؤلاء الساعين في الخير يبوءون بذلك، ويسألون الله تعالي أن يصلح حالهم، وينقذهم من هذه الضلالة ويهديهم إلي الصراط المستقيم. شيخ الحنابلة وعلي ما هومعروف من تشدد الحنابلة، فإن شيخهم كتب إلي المفتي يقول : » الحكم عندنا معاشر الحنابلة أن الشرع الشريف ألزمنا أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة إلاَّ إذا عَرّض نفسه للكفر، وكان المخالف فيه مجمعًا عليه». وأضاف أن أهل السنة والجماعة المتصفون بهذه الصفات الممدوحة شرعًا من تحصيل الاتفاق والائتلاف بين فرق أهل الإسلام وغير ذلك من بقية الصفات التي حث عليها الشارع، لا ينعتون بشيء من ذلك وإنْ استعانوا بغير المسلمين في تحصيل المصالح العامة للمسلمين كالصنائع والجهاد وغيرها، فإن الصنائع مأمور بها شرعًا، وقد اتصف بها آدم ومن بعده من الأنبياء والمرسلين، أما الجهاد فإن الاستعانة بغير المسلمين جائزة للضرورة، ولوكان العدومن بغاة المسلمين، واستدل بما رواه الزهري عن من استعان بهم الرسول عليه الصلاة والسلام في جهاده، وبأنه قد ورد في الحديث الشريف الصحيح أن » من كفَّر أحدًا بلا تأويل فقد كفر »، وبما أورده » البهوتي » عن الإمام أحمد أن الذين كفَّروا أهل الحق والصحابة كفار . الفاضل الحنفي كتب الأستاذ الفاضل الحنفي إلي الإمام محمد عبده يقول : » قال الله تعالي في كتابه العزيز :» وَتَعَاوَنُواْ عَلَي الْبرِّ وَالتَّقْوَي وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ِ » (المائدة 2) وقال عز من قائل : »وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ». (آل عمران 103). وقال مخاطبًا لصفوته من خلقه : » ادْعُ إِلِي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ » (النحل 125)، وقال في محكم آياته : » لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » (الممتحنة 8)، وهي آية محكمة لم تنسخ علي ما عليه أكثر أهل التأويل . وقال: المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وورد بالصحيحين أن الرسول، قال : إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر .. أما تكفير المؤمن، فإن مذهب أهل الحق عدم جوازه بارتكاب ذنب ليس من المكفرات صغيرًا كان الذنب أوكبيرًا، عالمًا كان مرتكبه أوجاهلاً، وسواء كان من أهل البدع والأهواء أولا . وجاء في شرح الجوهرة » فلا نكفّر مؤمنًا بالوزر»، وقيل في جامع الفصولين : » لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه »، وما يشك في أنه ردة لا يحكم به، إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك . وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الإسلام . وقيل في الفتاوي الصغري: »الكفر شيء عظيم، فلا نجعل المؤمن كافرًا متي وجدت رواية أنه لا يكفر» . وقيل في الخلاصة وغيرها : » إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير، ووجه واحد يمنعه، فعلي المفتي أن يحيل إلي الوجه الذي يمنع التكفير تحسينًا للظن بالمسلم». أما الاستعانة بغير المسلمين وبأهل البدع والأهواء علي نصرة الملة الإسلامية ، فهذا مما لا شك في جوازه ، واستطرد في التدليل علي ذلك من الكتاب وصحيح السُّنة ، وما ورد في كتب الثقات من الفقهاء ، مما هومنشور بتفاصيله في الفتوي . الأستاذ الأمام محمد عبده لم يجمع مفتي الديار المصرية، الإمام محمد عبده، آراء فقهاء المالكية والشافعية والأحناف والحنابلة، ليطلع عليها وكفي، أويحفظها سندًا لديه عند الحاجة إليها، وإنما ضمنها فتواه، لتكون بينة علي ما انتهي إليه، وعلي أنه محط إجماع المذاهب الأربعة الكبري لأهل السنة والجماعة فيما سئل فيه. بعد عرضه ما قاله هؤلاء، قَفَّي الإمام محمد عبده فقال إن المطلع علي ما نقله حضرات الأساتذة من علماء الجامع الأزهر من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة والعلماء من أهل المذاهب الأربعة : يعلم حق العلم أن ما يفعله أولئك الأفاضل المستفتي في عملهم من دعوة للخير هوالإسلام، وأنه من أجلّ مظاهر الإيمان، وأن الذين يكفرونهم أويصمونهم بالضلال هم الذين تعدوا حدود الله، وخرجوا عن أحكام دينهم القويم. ووصف الأستاذ الإمام المستفتي في شأنهم ، بأنهم دعاة خير قاموا بأمر الله من دعوة إلي الخير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر (آل عمران 104) ، وأن من رموهم بالكفر قد خالفوا نهي الله تعالي (آل عمران 105) ، وأنه لا يعفيهم اعتقادهم بصحة ما يرمون به الآخرين ، فأنهم يبوءون بتكفيرهم لأنهم اعتبروا الإيمان وأعماله كفرًا . أما الجهلة المتشدقون فإنه لا عذر لهم ، وقد جاء بالقرآن الحكيم قوله تعالي :» لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَي إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (الممتحنة 8 ، 9). وأضاف أنه متي أمن الضرر ، وغلب الظن بالمنفعة ، ولم يكن في الموادّة معونة علي تعدي حدود الله ، فإن الاستعانة بغير المسلمين مباحة ولا حظر عليها ، ذلك أن طالب الخير الساعي إليه يباح له، بل ينبغي له، أن يتوسل إليه بأية وسيلة توصل إليه ما لم يخالطها ضرر للدين أوللدنيا. هذا وقد شملت الفتوي تفاصيل ما أورده الأستاذ الإمام محمد عبده، وشيوخ المذاهب الأربعة، والرجوع إليها ميسور، فهي إذ صدرت في 5 مارس 1904، فإنها منشورة بالمجلد 17 من الفتاوي الإسلامية الصادرة عن دار الإفتاء في تسعٍ وثلاثين مجلدًا حتي الآن . خلاصة الفتوي وجيز ما تضمنته الفتوي من مبادئ : (1) قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف علي جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين علي ما فيه خير ومنفعة المسلمين . (2) استعان الخلفاء من بني أمية وبني العباس بأرباب العلوم والفنون من الملل المختلفة فيما هومن فنونهم علي أعين الأئمة والأعيان والفقهاء والمحدثين بدون نكير. (3) الذين يعمدون إلي هذه الاستعانة لجمع كلمة المسلمين وتربية أبنائهم وما فيه خير لهم لم يفعلوا إلاَّ ما اقتضته الأسوة الحسنة بالنبي .. وأن من كَفَّرهم أوفسَّقهم فهوبين أحد أمرين إما كافر أوفاسق . فإذا كان هذا ما أفتي به الإمام محمد عبده وشيوخ المذاهب من ذوي العلم والفقه، من أكثر من قرن من الزمان، بدا جليًّا أن البعض بما يصطنعه إنما يتقدم إلي الخلف والوراء !!!