دعونا نتفق ابتداءً أن التجديد في الدين أو في خطابه، لا يعني إنكار أو إلغاء الدين، ولا يعني تغييره ولا تفصيله علي الهوي، وإنما يكون التجديد في فهم لا يخرج عن الدين، ولكنه يعطي رؤية متجددة لمفهوم النص، دون الخروج عليه، وفي أساليب وكيفية عرض وتقديم الخطاب، وفي الإعْمال الواعي لمقاصد الشريعة، والتبصر بما يسمي فقه الأولويات، دون أن يكون ذلك سبيلاً للخروج علي الأحكام أو التلاعب فيها، ومن هنا كان ضروريًّا ولازمًا لكل باحث، أن يلم إلمامًا صحيحًا بطرق ووسائل وأدلة استنباط الأحكام من النصوص. والنص الأساسي المتغيا فهمه هو القرآن الكريم، ثم السنة النبوية، ويلحق البعض بهما » الإجماع »، حالة كونه قد أفرغ بعد تحققه فيما يعد من النصوص، وقد رأي البعض اعتبار » فتوي الصحابي » مصدرًا تاليا للإجماع يتغياه الباحث الساعي لاستنباط الأحكام. التجديد إذن، هو تجديد في الفهم وفي الخطاب وكيفيته وأسلوبه، ومتابعة واعية فاهمة للمقاصد، والتزام رشيد مخلص بفقه الأولويات، الذي يعني بجوهر الإسلام وقيمه ومبادئه، ورشيد شريعته وأحكامه، وأن لا ينصرف أساسًا إلي القشور أو المرجوح أو المهجور البعيد تمامًا عن التطبيق، وإنما يقدم الأهم علي المهم والمهم علي ما يليه، وصولاً إلي غايةٍ من المتفق عليه أنها للتجديد في الخطاب الديني، وليست تبديلاً أو تغييرًا في الدين، أو لإساغة مخالفته أو تفصيله علي الهوي، ولا هو لاتخاذه تكئة للهدم والتشويه والإساءة ! ظواهر مؤسفة !! من الظواهر المؤسفة أن البعض قد طفق يتحدث في كل شيء حديث العالم العارف به، والبعض قد جاوز الثقة والاعتداد بما يقول إلي الغرور والضيق بغيره، وربما تسفيهه أو ازدراؤه، وربما انجرف إلي السب والتجريح، وحين يجتمع الغرور مع قلة العلم، ويصاحبهما التطاول والمصادرة الجهولة، تمسي الطامة مزدوجة متراكبة، تنحي إلي تشويش قد يفتن ويضر في الوقت ذاته بعقائد البسطاء. ولا تقصد هذه الكلمات أن تصادر أحدًا، أو أن تصادر علي أحد، كما أنها ليست معنيةً بأشخاص بذواتهم، حتي من ساءت في نظرها نواياهم، ولا هي تدعي احتكار العلم أو احتكار المعرفة والحكمة والصواب، وإنما تريد أن نتبين معًا قدر استطاعتنا مفهوم التجديد وميادينه وكيفيته، بلا تعصب ولا عصبية، وبلا تسفيه أو إساءة، وهذه الغاية متفق عليها لدي أسوياء النية والهدف والغاية. وليس يخفي أن التجديد الديني بالذات، هو الغاية هنا، وأن هذا التجديد ينبغي أن يكون واضحًا لنا إطاره، وهل نعني به تجديد الدين، أم تجديد الفكر الديني، أم تجديد الخطاب الديني. فهذه المفاهيم ليست متطابقة، وينبغي أن تكون واضحة لكل من يتصدي منا لهذه القضية البالغة الأهمية، يحدو إلي ذلك أن الملاحظ أن البعض يمد هذا » التجديد » وفقًا لتصوره إلي » متن النص » القرآني أو النبوي، ودون أن يضع لذلك حدودًا أو ضوابط أو تمييزًا، ويخلط في شأن السنة، بين » قطعي الورود »، الثابت وروده بيقين، وبين غير القطعي الورود ، وما يستوجبه ذلك من وجوب البحث في مرتبة ثبوت وروده، وربما خَلَطَ البعض بين الثبوت وبين الدلالة، وهذه مسألة أولية يؤدي الجهل بها إلي ضلال بعيد. القرآن كله قطعي الورود والثبوت، ولكن هذه القطعية لا تشمل كل الدلالات وتأويلات النصوص. فإذا جاز اجتهاد العلماء العارفين في فهم وتفسير الدلالة، إلاَّ أن قطعية الثبوت بمعني صدوره وحيًا عن الله عز وجل، ليست مجالاً لاجتهاد، فالقرآن الكريم كله قطعي الورود والثبوت. أما السنة النبوية، فإن باب النظر في ثبوت نسبتها إلي الرسول عليه الصلاة والسلام مفتوح ؛ للعلماء والعارفين وطبقًا لضوابط لم يهمل القدماء والمحدثون من العلماء في وضعها لنا، لتهدينا إلي البحث والدراسة لترتيب السنة تبعًا لدرجة الثبوت، حمايةً للحديث النبوي من ظاهرة الوضع الذي نسب إلي الرسول عليه الصلاة والسلام ما لم يصدر عنه، وهذه الضوابط هي التي بذل فيها السابقون من كتاب السيرة غاية جهدهم في البحث والتمحيص، وكان من الضوابط التي التزموها ذكر السند وفي كل رواية من الروايات التي روي بها الحديث مهما تعددت، لأن هذا هو مناط ترتيب الحديث من ناحية الثبوت، بين المتواتر، والمشهور، وما يتلو ذلك من مراتب يعرفها علماء الحديث والمهتمون بدراسته، وذكر السند، وهو ما التزمه البخاري ومسلم وغيرهما، هو ما أدي إلي »استبعاد » آلاف عديدة من الروايات التي لم تثبت، وسبيل ثبوتها هو البحث في السند وقوته وأمانته وصدقه، ولذلك كثر في كتب الصحاح ما يسمي اختصارًا » بالعنعنات »، وهي ذكر أسماء الرواة : فلان عن فلان عن فلان وهكذا، ولذلك تعجبت كثيرًا حينما طالعت سخريةً لاذعةً » بالعنعنات »، وهي لا تدرك أن هذه » العنعنات » المستهزأ بها، هي سبيلنا مع علم الحديث وعلوم التجريح، للبحث في ثبوت نسبة الحديث من عدمه، وفي مراتب السنة تبعًا لدرجات هذه الثبوت. التعريف الصحيح بالإسلام أول واجبات التجديد لا يفوت الخلصاء الأسوياء، أن التعريف الصحيح بالإسلام، هو أوجب واجبات التجديد، لأن الإسلام كما أنزله الله، هو »المصدّ» الحقيقي إن جاز التعبير من باب المجاز للأفكار الشاردة، والتطرفات الجامحة، ففي عقيدة الإسلام، وشريعته، ما يكفل دحض كل ذلك، وكشف مخالفته للإسلام وقيمه ومبادئه وأحكامه وسماحته. وليس صحيحًا أن هذا التعريف مسكوت عنه، فالذي يتابع ما يجري يلمس الدور الكبير المبذول في بسط صحيح الإسلام، سواء في رحاب الأزهر الشريف وبين علمائه، أو المفكرين من غير الأزهريين، الذين بذلوا العمر والجهد للتعرف علي الإسلام، والمنافحة عنه، وتقديمه إلي الناس، مسلمين وغير مسلمين.. وإن المرء ليشعر بالخجل، حين يقارن ما يجري الآن من بعض المتطفلين بغير علم، علي الدين والتجديد فيه، وبين ما بذله شخص واحد كالأستاذ عباس العقاد، في التعريف بالإسلام، والمنافحة عنه، في سلسلة مؤلفاته الموسوعية الضافية، وفي مقالاته المتفرقة التي ضمتها مجموعات عنيت بتقصيها وجمعها. وهو تعريف ينطوي أيضًا علي تجديد، لأنه بَسَطَ رؤية رفيعة عميقة في الفهم، كثير منها غير مسبوق، نراه علي سبيل المثال في كتبه مثل : الله، الفلسفة القرآنية، التفكير فريضة إسلامية، الإنسان في القرآن الكريم، ما يقال عن الإسلام، الديمقراطية في الإسلام، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، المرأة في القرآن الكريم، الإسلام دعوة عالمية، الإسلام والحضارة الإنسانية، وأثر العرب والإسلام في الحضارة الأوروبية. وفي هذه المؤلفات، والمقالات المتفرقة، تناولٌ رشيد وعميق للعقيدة الإلهية، وقيامها في الإسلام علي الوحدانية والمثل الأعلي، وما يتعلق بها في مسألة الروح، وفي عقيدة النبوة التي برئت في الإسلام من الشوائب الغليظة التي لصقت بالنبوات السابقة، فلم تكن النبوة المحمدية نبوة سحرٍ أو كهانة، ولا استطلاع للغيب وإفحام بالخوارق المسكتة، وإنما كانت نبوة فهم وهداية، تخاطب الوجدان والعقل والضمير، بالنظر والتأمل والتفكير، وبما أنزله الله رب العالمين في قرآنه المجيد. يتحدث في الفلسفة القرآنية عن القرآن والعلم، وعن الأسباب والخلق، وعن الأخلاق مقياس التقدم، ويتناول في الإنسان والقرآن الكريم : المخلوق الكائن المكلف المسئول، وما تشكل فيه من روحٍ وجسد، ونفسٍ وعقل، وعن التكليف والحرية، وعن الأسرة الواحدة التي تنتمي إليها الإنسانية.. أما كتابه التفكير فريضة إسلامية، الذي كان جديرًا بتدريسه في المرحلة الثانوية بدلاً من العبقريات، لثرائه ومخاطبته للعقل ووظيفته في الإسلام، فإنه قد بين كيف أن هذا العقل والتفكير في مقابل الجمود والعنت والضلال، وأثر هذا العقل الذي جعل من نبوة الإسلام نبوة هداية، وجعل من الإسلام إمامًا للأديان، وتعرض فيه للاجتهاد في الدين، باسطًا أن غايته الفهم الصحيح الواجب للدين.أما كتابه عن الديمقراطية في الإسلام، فقد طوي علي أثر الديمقراطية في المسئولية الفردية، وفي المساواة، وفي الشوري، وفي التضامن في المسئولية، وانعكاسات هذا كله علي الديمقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلي التشريع والقضاء، وعلي الأخلاق الديمقراطية. أين ما تقدم وغيره من الممارسات الجارية الآن ؟! أين هذا وغيره مما كتبه الأستاذ العقاد، وكتبه غيره من آلاف الكتب، من الأزهريين وغير الأزهريين، وما ألقوه من خطب ومواعظ ومحاضرات، في بيان الإسلام والتعريف الصحيح به أين هذا وغيره مما لا يتسع الحيز لطرحه، مما صرنا نراه ممن يقتحمون الساحة بغير علم، أو بقليل مبتور من العلم وكثير من الغرض، أو ممن توافر لديهم العلم ولكن غلبتهم مآربهم وتطلعاتهم في الوصول إلي ما لم يُتح لهم، وما ينحدرون إليه علي اختلافهم من رغاب الاستعراض، ومن التشويه، ومن بث البلبلة، وانتقاء المهجور للمزاحمة به والتشويش علي قيم ومبادئ الدين وشريعته، ومما يستهدفه البعض من إساءة متعمدة إلي الأزهر الشريف لهز مكانته، وسعي ضرير لإجبار شيخه الإمام الأكبر علي التنحي أو الاستقالة، ومن سب واستهزاء بعلماء الدين، ومعايرتهم بزيهم، وتسمية البعض لهم » بالعمائم »، وكأن الزي تكئة للتسخيم والإهانة، أو إنكار العلم علي صاحبه. وقد أدت هذه المآرب والأغراض الملتبسة، إلي انزلاق البعض إلي تسفيه الدين ذاته، وتشويهه تحت لافتة أو ذريعة التجديد، بترهات لا علاقة لها بالإسلام، وتنطوي علي افتراءات مغلوطة لا تعي معني وأثر إسقاط الدين، وهدم مظلته التي تمثل سقفًا يحمي الفرد والمجموع من الانفلات والغي والضلال !!!