أسلفنا أن الدعوة إلي إهدار سنة رسول القرآن عليه الصلاة والسلام هي دعوة مضادة لذات القرآن المجيد، ندرك خطرها حين نعلم أن السنة في الاصطلاح الشرعي هي ما صدر عن النبي عليه السلام من سنن قولية، أو فعلية أو صدر عن بعض أصحابه من أقوال أو أفعال، سواء بسكوته وعدم إنكاره لها، أو بإفصاحه عن موافقته عليها. والسُّنة المحمدية بأقسامها الثلاثة: القولية، والفعلية، والتقريرية.. حجة علي المسلمين.. تُعد مكملة للقرآن الكريم.. ومصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي بعد الكتاب العزيز مباشرةً.. وهي تكتسب هذه الحجية ما دامت مقصودًا بها التشريع والإقتداء، ونُقلت إلينا بسند صحيح يفيد القطع، أو الظن الراجح بصدقه.. فلا يُعد من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان يأتيه من تصرفات وأعمال عادية في مجال حياته اليومية وأمور معاشه، ما دام لم يُقصد بها أن تكون تشريعًا للمسلمين.. إن السُّنة النبوية مكملة للقرآن في بيان الأحكام الشرعية، فهي التي تفصل ما جاء في القرآن مجملاً، وتبين ما قد يدق فهمه علي البعض، وتخصص عمومه علي اختلاف في قوتها في التخصيص، ففي السُّنة بيان الصلاة وركعاتها وكيفية أدائها، وبيان الزكاة التي أجمل القرآن الحديث فيها، والسُّنة أحيانًا تكمل الحكم، كما في اللعان الذي بينه القرآن، وقررت السُّنة تطبيقًا لآثاره الفصل بين الزوجين لما شاب علاقتهما من فقدان الثقة مما تستحيل معه العشرة، وهي أحيانًا تأتي بأحكام مثل تحريم أكل الحمر الأهلية، ولحم سباع البهائم، وتبيان الديات، وهي مما نجد أصلها في الكتاب. استبعاد السُّنة، هو هدم للإسلام، ومن المغالطة التذرع بمدي ثبوت السُّنة لإهدارها.. فالسُّنة النبوية قد جمعها أئمة كبار سجلوا في كتب الصحاح رواياتها ورواتها تفصيلاً دقيقًا فيما انبني عليه علم الحديث الذي أقام بقواعد صارمة مصفاة بالغة الدقة والإحكام لا يمر منها الحديث الموضوع، وأول معاييرها الدقيقة المدققة ألاَّ يتعارض الحديث مع القرآن، فإن تعارض دل ذلك علي أنه موضوع ومنسوب كذبًا إلي الرسول عليه الصلاة والسلام. السُّنة النبوية وأصول الفقه لا يتعامل علم أصول الفقه مع كتب السُّنة أو كل ما تضمنته علي أنه من المقدسات، بل إن أُولي مهام هذا العلم هو التأكد من صحة إسناد الحديث بين الحديث الصحيح الثابت وروده عن الرسول، والموضوع أي المكذوب في نسبته إلي الرسول، وهم لا يكتفون بهذه التفرقة الأساسية الأولية الضرورية، وإنما يقسمون » الورود » أي المنسوب إلي الرسول إلي » قطعي الورود »، والغير قطعي أو الظني الورود، ويدور علم الحديث الذي يهتم به علم الأصول حول هذه المهمة الجليلة.. ولم تكن هذه المهمة الجليلة مطلوبة سلفًا ثم انقضت أو انعدمت الحاجة إليها، فلا يزال علماء الحديث في كل عصر، وفقًا لقواعد علم أصول الفقه، ويباشرون مهمتهم إذا قام أي ظن في صحة نسبة الحديث وإسناده إلي الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن الكتب الحديثة القيمة في هذا الباب، كتاب » المغير » علي الأحاديث الموضوعة في » الجامع الصغير »، وهو كتاب صنفه الحافظ جلال الدين السيوطي، ولم تمنع مكانة الإمام السيوطي العالم المعاصر الحافظ أبا الفيض أحمد بن شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن الصديق الغماري الحسني، من البحث في كتاب » الجامع الصغير » للحافظ السيوطي، لتحديد ما قد فات عليه بإدراج أحاديث لا تستقيم نسبتها إلي الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقول تقديمًا لكتابه القيم أنه قد وردت بالجامع الصغير أحاديث انفرد بها الكذابون، وأخري ظاهرة الوضع وإن لم ينفردوا بها، لأنها من رواية كاذبين من أمثالهم الذين يسرقون الأحاديث ويركبون لها أسانيد أخري بقصد ترويج الحديث الموضوع لغرض الإغراب أو الاحتجاج أو غير ذلك من الأغراض ! علي أن البحث في صحة الورود، ليس مجالاً للهواة أو أنصاف الدارسين، إنما هي مهمة جليلة، لا ينهض عليها إلاَّ الفقهاء المتخصصون من علماء الحديث. أقسام السُّنة من ناحية الورود يفرق علماء الأصول من ناحية السند للسُّنة، بين المتصلة السند، وغير متصلة السند، والمتصلة السند علي درجات في حجيتها ومراتبها لدي علماء الأصول وعلماء الحديث، تبعًا لقوة السند من ناحية عدد رواة الحديث، إلي متواتر، ومشهور، وخبر آحاد. والحديث المتواتر، هو الذي يفيد العلم القطعي بوروده عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومرجع هذه القطع إلي وصول الحديث بطريق التواتر، وضابطه أن يبلغ الرواة حدًّا من الكثرة يستحيل عادة أن يتواطأوا جميعًا علي الكذب أو الاختراع، ومناط هذا التواتر أن يكون حاصلاًَ ثابتًا متحققًا في جميع طبقاته، أوله ووسطه ومنتهاه، بأن يرويه جمع عن النبي عليه السلام، ثم يروي عنه جمع مثلهم، وهكذا حتي يصل إلينا، ويُقال اختصارًا إنه رواية الكافة عن الكافة. أما الأحاديث المشهورة، فهي التي يرويها عن النبي عليه الصلاة والسلام واحدُ أو اثنان أو نحو ذلك من الصحابة، أو يرويها عن الصحابي واحد أو اثنان، ثم تنتشر بعد ذلك فيرويها قوم يؤمن تواطؤهم علي الكذب.. والفارق بين المشهور وغيره،أن اشتهار المشهور يكون في الطبقة التي تلي عصر الصحابة أو عصر التابعين، أما إذا اشتهر واستفاض بعد ذلك فلا يعد مشهورًا، ذلك لأن الأحاديث أو معظمها قد صارت مشهورة بما جرت كتابته من صحاح ومدونات للسنُّة.. والحديث المشهور يفيد عند أبي حنيفة وأصحابه » العلم اليقيني » في نسبته واسناده، ولكنه دون العلم اليقيني المحقق بالتواتر. أما إذا روي الخبر واحدٌ أو عددٌ يسير ولو في بعض طبقاته، فإنه لا يكون متواترًا مقطوعًا بنسبته وإسناده، وإنما يكون » أحاديًا ».. في اتصاله بالرسول شبهة، لأن اتصاله بالرسول لم يثبت قطعًا، ومن ثم فلا يفيد العلم اليقيني بصحة نسبته إلي الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما يفيد العلم الظني. شروط الأخذ بخبر الآحاد ولهذا فقد اشترط العلماء للأخذ بخبر الآحاد شروطًا، في مقدمتها ألاَّ يعارضه معارض من القرآن أو السنة، وإجمالاً يشترط لقبول خبر الآحاد » العدالة والضبط »، وأن يكون الراوي قد سمع الحديث عمن يروي عنهم بأن يكون لقاؤهما ثابتًا، وألا يكون في متن الحديث شذوذ، وألا يكون به ما يخالف الثابت عند أهل الحديث، أو المعلوم من الدين بالضرورة، أو ما يخالف بداهةً القرآن المجيد، ثم إنه لا يؤخذ به في الاعتقاد، مهما كان راجحًا، فهو وإن أفاد العلم الظني الراجح، فإنه لا يفيد العلم القطعي، بينما الأمور الاعتقادية لا تبني إلاَّ علي الجزم واليقين، ولا تبني علي الظن والاحتمال. الغير متصل السند أما الخبر غير متصل السند، فهو ما لم يتصل فيه السند إلي رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويسميه بعض العلماء المرسل، وبعضهم يعتبر المرسل ما لم يذكر فيه التابعي اسم الصحابي الذي روي عنه، ويسمي الآخر المنقطع، ويختلف علماء المذاهب في حجية هذا النوع، فلا يأخذ به الإمام أحمد بن حنبل باعتباره ضعيفًا، ويضع الشافعي للأخذ به شروطًا، وعلي غير ذلك رأي مالك وأبي حنيفة.. هذا كله عما يتعلق بالسند عن »الورود» ومدي وثاقته ودرجاته، أما »الدلالة»، فإن هاديها ما أسلفنا وجيزه، من وجوب الإلمام باللغة وأسرار البيان، لفهم القرآن والسُّنة، وما يتفرع عن ذلك من معارف بالقدر الذي يُفهم به خطاب العربية، والتمييز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه، إلي غير ذلك مما أسلفناه من علم لا يتوافر للعامة، ولا يتقنه إلاَّ العلماء ومن بلغ درجة الاجتهاد.. أما طرق استنباط الأحكام من النصوص، فهي باب واسع، أرجو أن نلتقي وإيّاه في الحديث القادم إن شاء الله.