"داعش" التنظيم، يواجه علي الأرض في المسرح الرئيسي لوجوده بسوريا والعراق، فصلا من فصول الانحسار الكبير، يتمثل في فقدانه مساحات واسعة، ظل مسيطرا عليها لمدة ثلاثة أعوام تقريبا. قد يكون من الجائز اعتبار فقدان الأرض فصلاً أو مشهداً من مشاهد الخسائر التكتيكية، لكنه من غير المتوقع في المدي القريب علي الأقل أن يكون مقدمة لخسارة كاملة، فربما لم تتشكل ملامح تلك الخسارة بعد. فإجابة سؤال مشابه عن تنظيم مواز ك "تنظيم القاعدة" وهل يمكن اعتباره قد هُزم، لاسيما بعد وفاة قائده بن لادن وانهيار سيطرته علي الأرض بأفغانستان، فضلا عن بروز تنظيم منافس أزاحه عن قيادة "العمل المسلح" وهو تنظيم "الدولة الاسلامية، داعش". تلك المتغيرات الثلاثة التي طرأت علي حالة القاعدة وجميعها محورية ومؤثرة بقوة، في نفس الوقت لا يمكن اعتماد فرضية الخسارة الكاملة للتنظيم برغم ذلك، علي الأقل هناك مجموعة من الفروع القوية مازالت لها وجود في العديد من بلدان العالم، وإن كانت تلك الخريطة الممتدة من الولاءات للقاعدة وهو التنظيم الذي "فرضيا" دخل دوامة الانحسار منذ نحو خمسة أعوام. فماذا يمكن تصوره بالنسبة لتنظيم "داعش" وهنا يجب التدقيق في الطابع المؤسسي الذي كان التنظيم يعمل عليه. بداية من اعتماد اسم "الدولة الاسلامية" كمسمي لتنظيم إرهابي مسلح في الأساس، واستتبعه صياغته لمجموعة من التقديرات الاستراتيجية عن طموحات تلك الدولة المزعومة، أخطر تلك الطموحات لم تكن تستهدف الأرض بداية بقدر استهدافها للعقول.. والتالي في سلم أخطاره أن التنظيم سعي بقوة وتركيز شديدين إلي إنشاء فروع خارجية، طورها سريعا حتي لا تقتصر علي تنظيمات خارجية تعلن ولاءها له والعمل تحت مسميات "الولايات"، بل لتمتد إلي الخلايا الصغيرة المغلقة الموجودة في مناطق بعينها، ومنها خرجت منظومة "الذئاب المنفردة" التي نشطت في البلدان الأوروبية وغيرها طوال العام الماضي ومازالت. في نهاية الاسبوع الماضي، استطاعت الأجهزة الأمنية الوصول والقبض علي ثلاثة عناصر إرهابية شاركوا في الخلية التي نفذت عملية تفجير "الكنيسة البطرسية"، وأذيع علي وسائل الاعلام اعترافات البعض منهم عن خطوات الانضمام للخلية وكيفية تشكيلهم كعناصر إرهابية.. الجدير بالاهتمام في تلك الاعترافات المنشورة أن جميعهم ذكر محطة غاية في الدلالة والأهمية، أن أحدهم كان عضوا بتنظيم الإخوان والآخر قدم تاريخ ما أسماه "التزاما دينيا"، ومن هذه المحطة بمجرد لقائهم مع قائد الخلية الإرهابية وانتقالهم إلي مستوي عمل وتشكيل مختلفين، قدم لهم القائد مجموعة مواد مصورة لتنظيم "داعش" تشمل عمليات سابقة ومنتجات إعلامية متنوعة يصدرها التنظيم عن نفسه، وكلا العنصرين ذكرا بأن جلسات التدريب الفكري كانت تتم أثناء مطالعة هذه المقاطع المصورة. هذه الاعترافات لمكونات هذا المشهد هي بالضبط الاستحواذ العقلي والإبهار الذي قصدناه سلفا، وبعضهم في معرض حديثه استرسل ليذكر بأنه هو من طلب من القائد الاطلاع علي عمليات داعش وأبدي رغبته في التوجه إليهم، لكنه تم استبقاؤه في الخلية وتكليفه بعملية الكنيسة البطرسية من قبل التنظيم. شكل مماثل لذلك كان يتم مع الذئاب المنفردة التي كانت تقيم وتتجول في المدن الأوروبية قبل ارتكابها جريمة إرهابية، "دهساً، طعناً، إطلاق نيران" كيفما يتفق مع العنصر المنفذ، قبلها يكون هناك تواصل إليكتروني مكثف مع العنصر يتم تغذيته بمجموعة متنوعة من المنتجات الإعلامية التي تؤهله للانطلاق باسم التنظيم، الذي من الممكن ألا يكون قد انضم فعليا له أو تقابل مع أحد من عناصره وجها لوجه.. وبالعودة إلي طموحات "داعش" في ضوء تلك المشاهد، المتكررة في فرنسا وألمانيا وبلجيكا وتركيا وتونس، وها هي تظهر في مصر بنمط شبه موحد، هي تترجم مخطط التنظيم لتطوير المنظومة الإرهابية المسلحة له، من مجرد اجتذاب أعضاء للانضمام في صفوفه إلي فضاء أكثر رحابة بأن يتحول التنظيم إلي "فكرة"، فالتنظيم منذ عامين تقريبا يبحث وراء الجاهزين للإيمان بالفكرة في أماكن متنوعة من العالم.. وبدأت في الشهور الأخيرة علي وقع الهزائم الميدانية التي تلقاها بالساحة العراقية، تخرج مجموعة بيانات موقعة باسم "أبوبكر البغدادي" تطالب أتباع التنظيم بعدم القدوم إلي أرض الدولة حاليا، والحرص علي البقاء بأماكن وجودهم في بلدان العالم المختلفة، وهذا التوجيه الصادر من البغدادي أصبح معلوما الآن للكافة علي مستوي العالم بواسطة آلة إعلامه النشطة، ثم كشفت خطبة الجمعة التي ألقيت في أحد مساجد غرب الموصل علي لسان قيادي بارز بالتنظيم 23 ديسمبر الماضي، عن بعض المواضيع المثيرة أبرزها: قرار البغدادي بإيقاف الهجرة إلي الموصل منذ أكثر من عام، وإلزام المهاجرين بالبقاء في بلدانهم وانتظار ساعة الواجب، مهدداً الدول الخليجية عن قرب إعلان تأسيس 10 ولايات في الخليج العربي، ومتوعداً تركيا بالجحيم في معركة الباب وما بعدها. تحول التنظيم ماثل أمام العيان بأنه يتمدد كفكرة ويبحث عن المروجين له كعقيدة جديدة للعمل الإرهابي المسلح، وهنا تدق أجراس الإنذار وحصار هذا السيناريو القادم سريعا.