حدود الأمن القومي المصري منذ قدم التاريخ لم ترتبط مطلقا بحدود مصر الجغرافية ولكنها كانت أبعد بكثير ؛ وعلي مدار عمر الحضارة المصرية بكل مراحلها الزمنية كان للمصريين صولات وجولات وصلت للشام وبلاد الحجاز في آسيا ولجبال الاناضول التركية في أوروبا ولما وراء البحيرات العظمي في العمق الأفريقي، وفي الحقيقة ظل حكام مصر علي وعيهم بأهمية تأمين حدود الأمن القومي المصري في كافة اتجاهاته الاستراتيجية الشرقية والغربية والجنوبية وليومنا هذا. ومع كل مالحق بهذه الحدود من مد وجذر بقي الاتجاه الجنوبي هو الاكثر أهمية وقد كان - ومازال - هناك حرص علي المحافظة علي الحبل السري الذي ربط مصر بأفريقيا، ولما لا وهناك الكثير من قبائل وسط وشرق إفريقيا من أصول مصرية وهناك شريان حياة يمتد في الجسد الافريقي والمصري ؛ وقد وعت مصر لأهمية تدعيم هذه الروابط علي مدار تاريخها الحديث خاصة إبان ثورة 1952 وتبني الزعيم عبد الناصر لكافة الثورات التحررية في القاهرة ثم استكمل الدور المصري برفع مستوي التنمية البشرية والاقتصادية والعسكرية لكل دول القارة تقريبا وهو استثمار يصب في النهاية لصالح الامن القومي المصري. وتعد فترة عبدالناصر هي الأكثر قوة ومتانة في العلاقات المصرية الافريقية ؛ وقد جاء من بعده الزعيم السادات الذي كان يعشق إفريقيا ولطالما تغني بأصوله الافريقية بل انه كان دائم الحديث عن شمس ونيل افريقيا كنبع لخير لا ينقطع وبغير من أو معايرة من أحد، لكن الرئيس السادات كان يؤمن بأن امريكا والغرب لديهما القدرة علي حل قضايا الشرق الأوسط وبالفعل انشغل بقضية السلام مع اسرائيل وتأخرت افريقيا من اهتمامه إلي حد كبير.. وتولي الرئيس الأسبق مبارك الحكم من بعده في ظروف نعلمها وقد انشغل بدوره بملف السلام ولم يكن لافريقيا المساحة الملائمة في أجندته حتي جاءت حادثة محاولة إغتياله في أديس أبابا عام 1995 فكانت القطيعة شبه التامة مع الاشقاء الافارقة..وقد تراجع بشكل مؤلم الاهتمام بدائرة إفريقيا كأحد أهم دوائر الامن القومي المصري، وأخيرا وبتولي الرئيس السيسي سدة الحكم قام بإعادة هندسة لكل دوائر الامن القومي ذات الصلة، وفي الحقيقة فإن ماتم كان برؤية إستراتيجية واضحة ومبنية علي أسس فيها الكثير من الفهم العميق وقراءة صحيحة للتاريخ وقدرة علي إستشراف المستقبل ؛ وقد أثبتت الأيام - رغم محدوديتها - ان ماحدث من إعادة هندسة لدوائر الأمن القومي المصري، خاصة بإعطاء أولوية قصوي للدائرتين الاهم إحداها تقليدية وهي الدائرة الافريقية والثانية تم استحداثها بفطنة سياسية وهي دائرة شرق المتوسط..ثبت ان هاتين الدائرتين كانتا بمثابة إصابة سهمين للهدف الكبير وهنا لابد من توجيه التحية للدبلوماسية المصرية التي ساعدت كثيرا في تصميم الرؤية وأدت بحرفية متعودة. والآن.. وقد أثمر الاهتمام بإفريقيا بصورة ملحوظة جعلت الجميع أكثر قناعة بأن العودة لإفريقيا بمثابة إعادة الوصال من جديد لحبل سري كاد يضمر، وقد تمكن الزعيم المصري من إعادة بناء الثقة بين مصر وشقيقاتها الافريقيات علي مدار عدة سنوات بالمزيد من الدعم والحوار بندية وإرساء قاعدة المصلحة المشتركة والمصير الواحد، ولم تخذله إفريقيا في اي من المحافل الدولية ولا الاقليمية وقد ساندت بقوة المواقف والطموحات المصرية بحب وقناعة بأن مصر العائدة جديرة بشرف تمثيل القارة السمراء وقد ظهر ذلك جليا في التصويت علي عضوية مصر لمجلس الامن غير الدائمة وكذا تفويضها لتمثيل القارة في مؤتمر المناخ الذي عقد في باريس ديسمبر 2015 ثم اختيارها للجنة الامن والسلم الافريقي ثم نقل مقر اتحاد دول الساحل والصحراء إلي مصر بمبادرة من الرئيس ديبي ، الخلاصة هنا ان مصر كانت أكثر حصافة عندما قدمت إفريقيا لتحتل مرتبة متقدمة في أولويات ليست سياستها الخارجية فقط ولكن في منظومة الامن القومي. ونلاحظ ان الملف الافريقي قد سيطر وبحق علي معظم تحركات السيد الرئيس وتعد الزيارة الأخيرة لسيادته إلي الرئيس موسيفيني في تقديري من أهم الزيارات الهادفة لتأمين الدائرة الافريقية والحديث الجدي والمهم الذي دار بينهما بشأن ربط البحيرات بالبحر المتوسط بمثابة خطوة استراتيجية واسعة علي كل الأصعدة لمن لدية القدرة علي إدراك ما وراء هذه القفزة العملاقة، لأنها ولأول مرة تنقل الأشقاء بكل طموحاتهم الاقتصادية إلي الشمال وتثبت بشكل عملي وعلي أرض الواقع أن مصر جادة في الأخذ بيد الأشقاء وانها تتعامل بندية وحسن نية وعدم التعالي وهو ما كان الرئيس موسيفيني قد سبق واشتكي منه منذ عدة سنوات.. بقيت نقطة مهمة طفت علي السطح مؤخرا والمتعلقة بمحاولات الأشقاء العرب الولوج إلي أفريقيا ولكن بشكل ربما فيه بعد التخطي أو الاستفزاز، وفي يقيني أنها إن كانت تستهدف خيرها وخير هذه البلاد فإن مصر ترحب أما إذا كان دخولها للمكايدة أو التحرش السياسي فمصر أكبر من ان تدخل في خلاف لا يستحق ولن تضيع وقتها ؛ ولكنها تراقب عن كثب ويقينا لديها القدرة علي إيقاف الآخرين عند الحد الذي تري هي أنه يمس امنها القومي، فإفريقيا ملعب مصري قديم لا ينافسها علي ريادته أحد وهي قادرة علي التعامل مع أي تحد أو تهديد علي أي متر مربع في القارة بل أي متر مربع في العالم لها مصلحة فيه أو يمثل تهديدا لمصالحها ولمن يريد الفهم ببصره لحظة فقدانه للبصيرة عليه مراجعة قوائم التسليح الأحدث للقوات المسلحة المصرية ومعني رفع الكفاءة وتوسيع دائرة المناورات المشتركة مع العديد من الدول.. أخلص..إلي أن التوجه المصري وبتركيز تجاه القارة السمراء هو خيار إستراتيجي و حيوي للغاية، إفريقيا بدولها 54 كفيلة بتحقيق الكثير من الضمانات للأمن القومي المصري علي كل مستوياته ؛ فهي قارة غنية وواعدة. والعلاقة التي تبني معها الآن كفيلة بتحقيق جزء كبير من أهدافنا الاستراتيجية، المهم ان نمضي بدأب وثقة وقريبا سوف نجني المزيد من ثمار هذا التوجه.