استكمالاً للحديث عن الأوجه الناصعة والمعتمة لتكنولوجيا النانو فقد تغيرت مفاهيم المجتمع المدني ونظرته إلي العلوم والتكنولوجيا تغيراً جذرياً منذ منتصف القرن العشرين، فأصبحت العلاقة بين الثالوث: العلم والتكنولوجيا والمجتمع علاقة وطيدة ومهمة تمثل في جوهرها ترابطاً وتكافلاً مهماً بحيث لا يمكن عزل أحدهم عن الآخر. وقد أصبحت التطبيقات الخاصة بالعلوم المعرفية والتطورات التكنولوجية المصاحبة لها، عوامل رئيسية في تقييم مدي ازدهار أي مجتمع وتحديد مقدار تقدمه ونموه. هذا ما دلت عليه دروس الماضي من التغيرات الاجتماعية المعاقبة للثورات الصناعية والحضارية بدءاً من عصر ما قبل الصناعة مروراً بالثورات الصناعية الكبري التي شهدتها البشرية خلال القرون الثلاثة الماضية والتي توجت بثورة الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية، وكذلك ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي مازلنا نعيش نتائجها وتأثيرها علي حياتنا الاجتماعية حتي اليوم. وتُعد ديناميكية التغييرات الاجتماعية المصاحبة للعلوم والتكنولوجيا في مجتمعات البلدان النامية، وعلي الأخص في دولنا العربية والعالم الإسلامي، عملية معقدة، وذلك لارتباطها بنسيج وثقافة المجتمع وبالنظم الاجتماعية والعادات والتقاليد الموروثة فيه. ولا يقتصر طول الفترة الزمنية المرتبطة باستجابة المجتمع للثورات التكنولوجية علي مجتمعاتنا فقط، بل إنها تشمل مجتمعات العالم كله، ولكن بنسب متفاوتة. فإذا ما نظرنا إلي الفترات الزمنية المطلوبة في مجتمعات العالم الغربي لإحداث تغييرات تكنولوجية واجتماعية مبنية علي الاختراعات والاكتشافات، فسنجد أنها قد تطلب مدداً زمنية طويلة، وذلك نظراً لحاجة أي نظام اجتماعي، شرقي أو غربي، نامت أو متقدم، إلي الوقت الكافي لتعديل الأنماط الاجتماعية المصاحبة للثورات العلمية ومحاولة إيجاد توازنات جديدة في نسيجه وهيكله الداخلي تقوم أساساً علي ضبط إيقاع العلاقات الاجتماعية المواكبة للثورات التكنولوجية والاكتشافات العلمية. وبطبيعة الحال، فإن هذه التغييرات الاجتماعية سوف تتكرر وإن كانت بصورة أعمق وبشكل شمولي عندما تهيمن تكنولوجيا »النانو« علي مجريات الأمور في القطاعات الصناعية والاقتصادية في العالم أجمع. ونود التأكيد أنه ليس بالضرورة أن تتم هذه التغييرات المصاحبة لتطبيقات تكنولوجيا النانو علي نفس النمط الذي تمت به عقب الثورات الصناعية السابقة، وذلك نظراً إلي تمتع هذه التكنولوجيا بقدر كبير من المرونة التي تؤهلها لإحداث تغييرات تدريجية في طرق الصناعة المستخدمة، عن طريق إدخال تعديلات مطردة ومتلاحقة، مما يعطي مجتمعات العالم الفرصة للاستيعاب التكنولوجي. والخطورة تكمن في تخلف بعض الدول عن مواكبة هذه التكنولوجيا الحديثة والارتضاء بما هي عليه اليوم وعدم الرغبة في تطوير منتجاتها المحلية، مما يجعل من هذه الدول صيداً سهلاً وسوقاً مفتوحة لفيضان السلع النانونية القادمة إليها من جميع أنحاء العالم. ولكن علي الرغم من غياب دولنا العربية عن ساحة النشر العلمي لعلم وتكنولوجيا النانو، فإن هذا لا يعني غياب الأنشطة العلمية والبحثية المتعلقة بهذا المجال عن منطقتنا العربية. فقد بادرت بعضٌ من دولنا العربية في منطقة الخليج العربي والنطاق العربي بالشمال الافريقي خلال سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلي تأسيس برامج ومراكز مخصصة لعلم وتكنولوجيا النانو. وقد انضمت حديثاً إلي هذا النشاط البحثي العربي في المجال نفسه دول عربية شقيقة، وهذا إن دل علي شيء فإنه يدل علي تعاظم الحس العربي بأهمية دور التكنولوجيات المتقدمة في دعم وتعزيز المفاهيم الاجتماعية، وتوظيف أدوات تكنولوجيا النانو لحل مشاكلنا المستعصية، وتحسين معيشة المواطن العربي وتوفير الرعاية الصحية والخدمات الطبية له. وللحديث بقية.