لا أعرف سبباً واحداً لهذا الجدل العقيم، الذي انساق إليه بعض علماء وخبراء الطاقة النووية، والذين يتبادلون اليوم الاتهامات، وتحول كل واحد منهم إلي عليم ببواطن الأمور، ومنظر استراتيجي لاستخدامات الطاقة النووية. فبعد شهور عديدة من الجدل العقيم حول مكان إقامة هذه المحطات، سواء في منطقة الضبعة أو غيرها، دخلنا في جدل أكثر سخونة - ولكنه أكبر خطورة بكثير - حيث تطرق بعض علمائنا الأجلاء إلي الإدلاء بتصريحات غير مسئولة، حول وجود مادة اليورانيوم، وحول علاقات مصر بالوكالة الدولية للطاقة، وما يمكن أن تقوم به من إجراءات روتينية تتبع مع كل الدول، التي تحترم الشرعية في كل ما يتعلق باستخدامات الطاقة النووية، وقصرها علي المجال السلمي فقط. نخطئ كثيراً وكثيراً جداً، لو تخيلنا أن طريق تنفيذ الحلم المصري بامتلاك محطات لتوليد الطاقة الكهربائية، عن طريق الطاقة النووية، سوف يكون مفروشاً بالورود والرياحين!! الحقيقة أن عكس ذلك هو المتوقع، فهناك قوي كثيرة في المنطقة يؤرقها أي تقدم مصري في أي مجال، خاصة أن دخول مصر لعصر المحطات الكهربائية التي تعمل بالطاقة النووية، سوف يفتح الباب أمام استخدامات أوسع في مجال التنمية، وخاصة تحلية مياه البحر والتوسع الزراعي. ولا شك أن مجال الطاقة النووية يعد من المجالات الهامة والخطيرة، التي لا يجب أبداً أن تكون مجالاً لجدل عقيم من المناقشات عبر بعض الصحف أو وسائل الإعلام، لأن كل هذه المناقشات والآراء والأفكار تخضع لنقاش وتحليل واستخراج نتائج من قبل جهات كثيرة خارجية، وملف الطاقة النووية من الملفات الهامة، التي أصبحت مثار الاهتمام وتشكل هاجساً لبعض القوي الخارجية، سواء كانوا دولاً أو أفرادا. ومجرد استعراض سريع للتوترات والحروب، التي اندلعت خلال السنوات العشر الأخيرة، يأتي ذكر ملفات الطاقة النووية باعتبارها مصدراً للمخاوف وعدم الاستقرار.
إن مصر من أولي الدول التي وقعت علي كل المعاهدات الخاصة بحظر الأسلحة النووية، كما أن تجربتها الجديدة تتم علي أرضية قوية من العلاقات الوطيدة مع الوكالة الدولية للطاقة، ومع العديد من الدول المتقدمة في هذا المجال، كما أن لديها خبرات وكوادر وطنية مؤهلة وعلي أعلي المستويات، بالإضافة إلي أن البرنامج المصري للاستخدام السلمي للطاقة النووية، يعتمد علي خبرة سابقة ورصيد كبير منذ الثمانينيات، عندما بدأ التفكير الجدي في إقامة مثل هذه المحطات لمواجهة النقص المتزايد في احتياطيات، البترول - خلال تلك الفترة - وتم وقتها إجراء اتصالات مكثفة مع الدول المتقدمة في هذا المجال، وهي الولاياتالمتحدة وفرنسا وألمانيا وكندا. كم أتمني أن يصدر قرار سيادي، يحظر علي كل علماء مصر في هذا المجال الخوض في أي تفاصيل، تتعلق بالبرنامج المصري للاستخدام السلمي للطاقة النووية، وأن يكون هناك متحدث رسمي حول هذا الملف، يقوم وحده بالرد علي أي استفسارات أو الإدلاء بأي بيانات خاصة بالطاقة النووية. أخشي ما أخشاه أن يتحول ملف الطاقة النووية السلمية إلي »مكلمة« يصول فيها ويجول كل من له أو ليس له علاقة بها، وذلك في إطار حمي الانفلات الإعلامي والديمقراطي، التي يعيشها الشارع المصري، والتي يصبح الحديث فيها عن الضوابط »فزاعة« تستخدمها بعض القوي السياسية، التي تتمسح في أثواب حرية الرأي والتعبير. فمصالح مصر العليا تمثل خطاً أحمر، لا يجب تجاوزه بأي حال من الأحوال، وتحت أي ذريعة من الذرائع. الطاقة النووية السلمية ملف دقيق، لا يجب بأي حال من الأحوال أن يصبح مادة خصبة يعبث فيها بعض المختصين أو غير المختصين، أو بعض المسئولين السابقين، أو بعض أساتذة الجامعات، والذين تحول بعضهم إلي جهابذة في علوم الذرة. بل إن بعضهم بدأ يتحدث عن مدي توافر عناصر الأمان ويقارنها ببعض المشاكل. مثل جمع القمامة والعشوائيات. وغاب عنهم جميعاً مدي التقدم الهائل الذي حدث في انتاج هذه المحطات، والتي تتواجد اليوم داخل الأحياء السكنية في العديد من عواصم العالم.
علينا أن نسترجع فترة الثمانينيات، والتي بدأ فيها التفكير الجدي لدخول مصر إلي هذا المجال، والصراعات التي دارت في الكواليس بين الدول المنتجة لهذه التكنولوجيا، والتي حاولت كل واحدة منها الاستئثار بتنفيذ هذا المشروع الحيوي، لولا المواقف الواضحة والصارمة التي وضعها الرئيس مبارك، والتي رفضت تماماً إعطاء أي أفضلية أو ميزة لدولة علي أخري، وكان الشرط الوحيد هو المنافسة، وحق مصر في اختيار أفضل العروض المقدمة فنياً ومالياً، وفي إطار التعامل بشفافية كاملة، وتحت عين وبصر أجهزة الرقابة علي المال العام. لقد أغلق الملف النووي المصري في بداية الثمانينيات، بسبب مجموعة من العوامل التي وضعت كلها تحت عين صانع القرار، ليأتي قراره بتأجيل هذا الملف، ووفقاً لأولويات خاصة شكلت استراتيجية متكاملة، تضع نهضة ونمو الاقتصاد المصري في المقدمة، بما في ذلك حل مشكلة الديون وعدم تحميل البلاد أي أعباء إضافية، بالإضافة إلي قدرة الرئيس مبارك وحكمته ونظرته الثاقبة في التعامل مع دول متقدمة، تربطنا بها جميعاً علاقات وثيقة، لكنها تسعي لتحقيق مصالحها الاقتصادية للفوز بتنفيذ المشروع المصري. جاء قرار التأجيل ليؤكد الحكمة والمقدرة الفائقة لصانع القرار، في الانحياز لمصلحة مصر، والحفاظ علي علاقاتها الممتازة مع المتنافسين، والتي تزامن معها وقوع حادثة تشرنوبيل الشهيرة. خلاصة القول، أن المشروع النووي السلمي لتوليد الكهرباء ليس مجرد محطة كهرباء أو إنتاج للطاقة، ولكنه مشروع استراتيجي يتم وفق حساسيات وحسابات خاصة، أعتقد أنه من الضروري أن تترك لأصحابها، بعيداً عن سوق الاجتهادات وتعدد الآراء والأفكار، والذي لم تعد تقتصر فقط علي الأمور التي يصلح فيها الاجتهاد، ولكن تم تخطيها إلي أمور علمية وسياسية دقيقة. هناك جهات كثيرة خارجية ترصد كل كلمة تقال حول هذا البرنامج، وهناك أصابع إسرائيلية خفية تحاول الشوشرة، من خلال اتصالاتها ببعض مؤسسات التمويل الدولية، لعرقلة الحصول علي قروض خاصة لتمويل البرنامج المصري. وبالطبع، ليس السبب في ذلك المخاوف التقليدية من دخول مصر لهذا المجال، لأن مصر تقوم بتنفيذ كل الاشتراطات، وفي علانية، وشفافية كاملة، ولكن السبب الرئيسي هو عرقلة أي تطور أو تقدم مصري.