كثيرة هي الآراء والاجتهادات التي طرحها المحللون والمعلقون وحتي علماء النفس وخبراء لغة الجسد لتفسير ابتسامة مبارك الغامضة خلال جلسة محاكمته الأخيرة، لدرجة جعلتها اكثر شهرة من ابتسامة الموناليزا في لوحة ليوناردو دافنشي الاسطورية. البعض رأي ان ظهور مبارك منتعشاً ضاحكاً ملوحاً بيده في عظمة وكبرياء يعكس احساسه بالانتصار علي الثورة، التي اطاحت به، وعلي معارضيه الذين ناصبوه العداء حتي قبل السقوط بما فيهم الاخوان المسلمون والليبراليون والعلمانيون ايضاً.. وتزايد هذا الانطباع مع ارتفاع اصوات انصاره داخل وخارج المحكمة يؤكدون ولاءهم له. اكتسبت هذه الصورة مغزي اعمق في ضوء مقارنتها بمشهد مبارك خلال محاكمته الاولي حيث ظهر ممدداً علي ظهره داخل قفص الاتهام ذليلا مهيناً يحاول ولداه علاء وجمال اخفاءه عن العيون وكاميرات التصوير بينما كانت اسر الشهداء تقف امام المحكمة تطالب بإعدامه. البعض الآخر فسر ابتسامة مبارك بأنها رسالة للمصريين والعالم بانه واثق من مستقبله الذي لن يخرج عن البراءة ورد الاعتبار. وربما وصل خياله المريض الي احتمال عودته الي السلطة بعد ان تأكد المصريون انه البديل الوحيد لحالة الفوضي التي يعيشونها والتي كان يحذرهم ويحذر العالم كله منها طوال سنوات حكمه التي امتدت لثلاثين عاماً. وهناك ايضا من تحدثوا عن حالة التشفي والشماتة التي عكستها ابتسامة مبارك وكأنه يقول للثوار .. "اشربوا" نتيجة ثورتكم بينما استمتع انا، رغم انوفكم، بالاقامة في غرفة العناية المركزة وانتقل الي المحكمة في طائرة خاصة والتقي يوميا بزوجتي واولادي واحفادي ويقوم علي خدمتي فريق من الاطباء والسكرتارية والحرس الجمهوري الذين يحرص كل منهم علي مخاطبتي بلقب فخامة الرئيس!! كل هذه التحليلات والتفسيرات لها بالتأكيد اسس منطقية تستند كلها علي حقيقة ان الحكم الحالي في مصر لم يكن هو البديل الذي يحلم به الثوار لنظام مبارك، وأن الازمات التي تمر بها البلاد الآن لم تكن واردة ابدا في حسابات المصريين او طموحاتهم وهم يفجرون ثورتهم. بل ان العالم كله استقبل الثورة في بدايتها بانبهار ثم سيطر عليه شعور بالاسي علي المصير الذي وصلت اليه وأيضا الندم علي التسرع في الحكم بنجاحها والإشادة بها. والحقيقة ان عندي تفسيراً آخر لابتسامة مبارك الغامضة في قفص الاتهام وهو العناد الذي اشتهر به هذا الرجل وادارته لكل المواقف والازمات التي عاشها باسلوب "كيد النساء" الذي يستهدف فقط الكيد لخصومه وإثارة غيظهم وحرق دمهم بصرف النظر عن اي شيء آخر. ولا شك ان مبارك يدرك جيداً في داخله، علي الاقل، انه خسر المعركة وان كل ما يفعله الان هو مجرد "حلاوة روح" .. فهو من الناحية العملية قد مات بالفعل. وليس بالضرورة ان يكون موت مبارك بمعني الوفاة خاصة وانه تجاوز الخامسة والثمانين، بل المقصود بالموت هنا هو نهايته كرئيس دكتاتور ينحني له الجميع ويدير شئون البلاد وكأنها عزبة له ولأولاده واحفاده من بعده. نعم .. انتهي مبارك الرئيس والطاغية ولن يكون امامه في احسن الاحوال سوي ان يكمل ما تبقي له من ايام في هذه الدنيا راقدا علي سرير او منزوياً في منطقة نائية او ربما منفياً لدي اصدقائه في الخارج الذين فعلوا المستحيل لانقاذه من حبل المشنقة. إلي جانب ذلك يدرك مبارك ان السجن هو السجن حتي ولو كان في قصر. والاهم من ذلك هو الشعور الرهيب بالخوف الذي يسيطر، بكل تأكيد، علي مبارك رغم كل محاولاته للهروب منه .. الخوف من ان تصحح الثورة المصرية اخطاءها وأن يدرك الثوار بمختلف توجهاتهم ضرورة التكاتف لانقاذ الثورة من الفشل .. في هذه الحالة ربما تتحول ابتسامة مبارك الساخرة الي دموع ساخنة عندما يواجه العدالة الحقيقية ويلقي المصير الذي يستحقه. هذا الخوف لن يستطيع مبارك التخلص منه لانه ربما كان هو الوحيد الذي يعرف حقيقة وحجم الجرائم التي ارتكبها، وهو أيضاً الذي كان يردد دائما للمحيطين به مقولة من ضحك اخيراً ضحك كثيراً..