أ . د. محمد محسوب لا أستطيع أن أتصور ما كان يمكن أن يحدث لأي دولة من دول الربيع الأوربي خلال التسعينات فيما لو استسلمت لما نستسلم له الآن من هواجس ومخاوف وارتباك.. فسقوط الاتحاد السوفيتي أدي بشكل تلقائي إلي ثورات متوالية للتغيير اعتبرها البعض رمزا لنهاية التاريخ وجعل سقوط جدران برلين نهاية للكبت والقهر والاستبداد وإعلانا لانتصار واضح للحرية والديموقراطية.. وتخيل معي لو أن الشعب الروماني أو المجري أو غيرهما توقفا كثيرا أمام مشكلات مثل الانتخابات أولا أم الدستور ، والتنازع ، فقط بعد عدة أيام من التوافق عليها ، حول شرعية الجمعية التأسيسية ؛ وأخيرا الجدل بشأن ما إذا كانت إرادة الشعب واعية أم مغيبة ، وما إذا كانت إرادته كافية لمنح الشرعية أم غير كافية.. ألخ وما أعتقده أن الشعوب لا يمكن أن ترسم مستقبلها بمسطرة وبطريقة رياضية بحيث تتجنب أي خطأ. فكل الشعوب ارتكبت أخطاء في مسيرتها نحو التحول الديموقراطي وتكريس قيم المواطنة والحرية والمساواة والعدل ؛ غير إن الشعوب الواعية تميل إلي تصحيح ما تقع فيه من أخطاء أثناء مسيرتها مستعملة نفس قيم الديموقراطية ، فالأخطاء هي الفرصة الوحيدة لتكريس هذه القيم. فلا يمكن تصور أن الشعوب التي تنتقل من القهر إلي الحرية ومن الدكتاتورية إلي الديموقراطية هي في حالة تسمح لها بأن تكون كل اختياراتها صائبة تماما ، وإلا لكان الاختيار الأول كافيا ويغني عن العودة للاستماع لقرار الشعب في استفتاءات أو انتخابات لاحقة. الحقيقة التي لا يماري فيها مراقب ، هي أن كافة الشعوب ارتكبت أخطاء في مراحلها الانتقالية ، لكنها تصحح أخطاءها في الفرصة التالية ، وأن الشعب المصري ليس بدعا من هذه الشعوب ، فهو يتخذ قراره علي أساس معطيات واقعية ظاهرة لم يختبرها من قبل ؛ ومن ثم لا يجوز لأحد أن يقلل من اختياراته أو يتهمه بعدم الحكمة ، وإنما علي الجميع احترام حكمه والمساعدة في تقييم كل اختيار لتكون الصورة أوضح في الاختبار التالي. وإذا كان شعبنا قد مر عبر خمسة اختبارات متوالية في أقل من عامين ، وهو مقبل علي الاختبار السادس ، فإن لذلك جوانب سلبية بالتأكيد ، وكنا نود أن يكون اختيار الشعب الأول قابلا للاختبار كامل المدة التي قررها ولا تنحل أي مؤسسة منتخبة بطريقة مبتسرة خلافا لإرادة الشعب ، لأن لذلك أثر يضعف مفهوم "الشعب مصدر السلطات" فيجعل ذلك مشروطا بقبول مؤسسات أخري أو فصائل سياسية أو غير ذلك ، كما إن إهدار الإرادة الشعبية بحل مؤسسة منتخبة تحت أي زعم يؤدي إلي تكريس مبدأ هدم المؤسسات بدلا من مبدأ تدول إدارتها سلميا والتنافس في إصلاحها وتنميتها. الأمم تستند في مسيرتها إلي مبادئ عظيمة واضحة تضعها في اللحظة الأولي لبدء تلك المسيرة ، فإما أن تعلي قيمة الإرادة الشعبية أو أن تقدم لغة الحشود علي نتائج الصندوق ، وإما أن يؤمن الشعب أنه بالفعل مصدر للسلطة والشرعية أو يترسخ في ذهنه أن شرعيته مطعونا عليها دائما ومتنازعا في قيمتها كثيرا ومُلتفتا عنها عندما يشتد الصراع السياسي. وربما أن أغرب ما سمعته من سفير لدولة غربية قابلته في الأيام الأخيرة تبنيه لما تثيره بعض القوي السياسية المصرية طعنا علي شرعية الرئيس المنتخب من أن ضعف أدائه أو اتخاذه لبعض القرارات الخاطئة، تمثل تراجعا في شرعيته وليس فقط في شعبيته (!!) وما أدهشني أن ذلك يصدر عن سفير لبلد عريق في الديموقراطية يرتكب قادتها آلاف الأخطاء والحماقات ومع ذلك فإن شرعيتهم المستمدة من الإرادة الشعبية لا تُمس. القضية أن البعض يحاول أن يضع لمصر مقاييس خاصة بها ، مقاييس شديدة الضيق وتتصف بقصر النظر ، لأنها بكل بساطة تحول القيم الديموقراطية الواضحة والمستقرة إلي قطعة من العجين يمكن إعادة تشكيلها لتحويلها إلي مسخة ، تحمل ملامح الديموقراطية دون مضمونها الحقيقي. والأدهي أن البعض لا يرفع صوته ولا يطرف جفنه عندما يطالب مطالب بعودة دستور 71 الدكتاتوري وتعيين مجلس رئاسي دون اختيار من الشعب لأنه غير راض عن الدستور الذي سنته جمعية ، هي الأولي المنتخبة في تاريخ الدولة المصرية ، ولأنه لا يري الرئيس المنتخب مناسبا لهذه اللحظة. البديهات التي تزخر بها الديموقراطية ، ونراها كل يوم ، أن الديموقراطية ليست حكم أفضل الناس ولا أذكاهم ، وإنما هي حكم من يختاره الشعب ؛ وأنها لا تعني أن الشعب يختار ، بينما يكون لمؤسسات أخري أو لقوي سياسية أخري التلاعب في اختياره أو تغيير ما استقرت عليه إرادته ، وإنما تعني أن الشعب يختار ، فإذا كان اختياره خطأ فإنه هو من يغير ويستبدل في المناسبة اللاحقة بوسائله السلمية التي ثار لإقرارها. ربما أنني ممن رأوا بعين قريبة الأداء الحكومي الذي يعبر عن حكومة الرئيس وسياساته ، باعتبار أن الرئيس هو من يتمسك بتلك الحكومة ، وأن اختلافي مع سياستها هو ما دفعني للانسحاب منها ، لكن الاختلاف في السياسات بالنسبة لي لا يجوز أن يكون مدخلا لهدم قيم الديموقراطية التي خاض الشعب المصري لأجل إقرارها مخاطر جمة. فالشعوب يمكنها أن تتحمل سياسات حكومة ليست علي مستوي طموحات الشعب حتي تغيرها بصناديق الانتخابات ، بينما لا يمكنها أن تقبل أن يتم تغيير ذلك بإرادة غيرها أو بفرض الرأي أو بدفع الأنصار والحشود في السكك والطرقات أو بالتغاضي عن التدخل الأجنبي ؛ لأن ما تخسره الشعوب بسبب قبولها بإهدار إرادتها وإهدار اختيارها هو أكبر بكثير مما قد يفوتها فيما لو صبرت علي سياسات ضعيفة حتي تقرر بإرادتها ، أيضا ، تغيير الوضع ونقل السلطة ليد أخري تراها أكثر قدرة علي القيادة. الانتخابات البرلمانية القادمة لاختيار أعضاء مجلس النواب ، هي فرصة مواتية للشعب المصري ليعيد فرض إرادته بتشكيل مجلس تشريعي جديد يعبر عن رؤيته بعد تجربة استطالت لسنة كاملة منذ حل مجلس الشعب الأول ؛ كما إنها فرصة لإعادة تقييم أداء الحكومة بوضوح وتغييرها ، فيما لو رأي الشعب ذلك ، عن طريق فرض أغلبية برلمانية مختلفة أو إحداث توازن يفرض علي الجميع التعاون ؛ خصوصا أن الحكومة أصبحت هي الركن الأساسي في السياسة الداخلية ، بعد أن منحها الدستور الجديد منفردة مجمل السلطات اللازمة لإعادة تهيئة منظومة الأمن لتحقيق الاستقرار الأمني المفقود ، وبناء وإنشاء وإصلاح وإدارة كافة مرافق الدولة من تعليم وصحة ونقل وغير ذلك. وفي رأيي المتواضع ، أن مقاطعة الانتخابات هو مساهمة في إضاعة فرصة قريبة واتت الشعب المصري لإعادة تقييم أداء الجميع في فترة مرتبكة شاهد بعينيه طريقة إدارة كافة الأطراف ، في الحكم أو في المعارضة ، للمرحلة الانتقالية ، والتي ربما تزداد ارتباكا فيما لو طالت أكثر. خصوصا أن القانون الذي علي أساسه ستجري الانتخابات القادمة هو في صلبه نفس القانون الذي توافقت عليه كافة القوي السياسية المتنازعة في الساحة ، وذلك في اتفاقها الشهير مع المجلس العسكري نهاية سبتمبر 2011 وعلي اساسه جرت الانتخابات البرلمانية لمجلس الشعب السابق ؛ وأن التغيرات التي أدخلت علي هذا القانون ليست جوهرية وإنما جاءت لتجعله أكثر اتساقا مع الدستور الجديد ، خصوصا بشأن حق المستقلين في عمل قوائم انتخابية غير حزبية ، وتعديل في بعض الدوائر بعدد قليل من المحافظات ليتناسب مع توصية المحكمة الدستورية العليا. ومع ذلك فإنني مع الحوار بشأن وضع ضمانات كافية تطمئن كافة الأطراف علي إجراء انتخابات نزيهة ، لكني لا أتفهم مقاطعة الانتخابات الرابعة بعد الثورة رغم عدم وجود تغيير جوهري ، سوي أنها أول انتخابات تجري في ظل الرئيس الجديد ، بينما الانتخابات الثلاث التي سبقتها جرت في ظل إدارة المجلس الأعلي للقوات المسلحة ؛ وكنت أتمني أن هذا المتغير يكون واحدا من دواعي الطمأنة لا سببا في الاختلاف والشقاق. أخيرا ، فرغم كل الاضطراب الحاصل في الساحة السياسية والارتباك في الأداء الحكومي والغموض في موقف القوي السياسية ، فإن الجمهورية الثانية التي وُلدت مع الثورة ستستمر في اكتساب أرض جديدة ، ربما تؤخر الأحداث اكتمال صورتها النهائية ، أو تزيد من الكلفة الاجتماعية لبناء مؤسساتها وتكريس قيم الحرية والعدالة ، إلا أنها في النهاية ستصل إلي ما يحلم به الشعب المصري ؛ وهي ثقة مبنية علي الثقة في هذا الشعب المعلم ، صاحب الحكمة والذي عندما يخرج من حالة الكمون بثورة فإنه إنما يفعل ليكتب مستقبلا يدهش العالم .. هكذا أعرفه منذ آلاف السنين.