أخطر ما تشهده مصر في أزمتها الراهنة ليس هو الصراع السياسي بين مختلف القوي والتيارات وليس هو حتي محاولات التكالب علي السلطة والاستيلاء علي الحكم.. الخطورة الحقيقية تكمن في مناخ الشك وانعدام الثقة بين الجميع لدرجة باتت تشكل حاجزاً نفسياً رهيباً يجهض اي محاولة لرأب الصدع وتغليب مصلحة الوطن العليا للخروج من المأزق الذي تواجهه بلادنا الآن... هذه الثقة المفقودة،هي جوهر الأزمة التي حذر الفريق أول عبد الفتاح السيسي من ان استمرارها قد يؤدي إلي انهيار الدولة وتهديد مستقبل الأجيال القادمة نظراً لما تشكله من خطر علي استقرار مؤسسات البلاد وتهديد للأمن القومي المصري،الأمر الذي قد يؤدي لعواقب وخيمة. صحيفة هيرالد تريبيون الأمريكية أشارت إلي ما وصفته بتآكل ثقة الرأي العام في الحكومة ونقلت عن مايكل حنا الباحث في مركز"سنشري" بنيويورك تأكيده علي أن السلطة المعنوية أو الأدبية للدولة في مصر قد تآكلت بالفعل خلال الأزمة السياسية الراهنة. الأدلة علي ذلك عديدة و في مقدمتها رفض ابناء محافظات القناة،بورسعيد والاسماعيلية والسويس، تنفيذ قرار الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية بإعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجول لمدة شهر في المحافظات الثلاث.. وشمل مناخ عدم الثقة التشكيك في نزاهة القضاء والاعتراض علي احكامه خاصة في قضايا شهداء الثورة التي صدرت فيها أحكام بالبراءة ومذبحة بورسعيد التي أحالت أوراق 21 متهماً الي فضيلة المفتي تمهيداً لحكم الاعدام ، وامتدت الشكوك الي القضاء نفسه الذي انقسم حول المطالبة باقالة النائب العام. وبعد الانتقادات المريرة لأجهزة الأمن حاصرت الشكوك الشرطة التي فقدت ثقة الكثيرين، وأعرب ضباط الشرطة أنفسهم عن شكوكهم في وزير الداخلية الجديد اللواء محمد ابراهيم الذي تعرض للهجوم خلال مشاركته في جنازة رجلي أمن قتلوا في احداث بورسعيد. حتي الاعلام لم يسلم من مناخ انعدام الثقة،فحاصر البعض مدينة الانتاج الاعلامي التي اتهموها بإشعال الفتنة بينما حطم اخرون كاميرات الصحفيين واعتدوا عليهم بحجة أنهم عملاء للسلطة!! وطالت الشكوك العملية السياسية التي عاشتها مصر بعد الثورة و التي جاءت بالتيار الاسلامي و الرئيس مرسي الي الحكم.. ووصلت الأمور الي حد تلويح البعض بالعصيان المدني وتأكيدهم عدم الاعتراف بالرئيس المنتخب لانه رئيس للاخوان المسلمين فقط وليس لكل المصريين. هذه الشكوك المتبادلة أجهضت،وسوف تجهض،كل مبادرات الحوار والحلول السلمية للأزمة بعد أن اصبح كل طرف ينظر الي كل ما يصدر عن الأطراف الأخري في ضوء نظرية المؤامرة و التفسير التآمري للتاريخ.. وأخيراً،دخل الفوضويون علي الخط ليؤكدوا أن الفوضي هي الحل علي طريقة (اشتدي يا أزمة تنفرجي) فأشعلوا العنف وأهدروا الدماء،أي دماء، وأخذوا يروجون لشعاراتهم المريضة بأن أي سلطة هي بالضرورة قمعية استبدادية و بالتالي يتعين إسقاطها و تدميرها حتي تتحقق رؤيتهم الحمقاء للحرية التي هي أقرب للفوضي و البهيمية.. ولا توجد وسيلة لمواجهة المخططات الخارجية والداخلية في مصر سوي التحرك بشكل فوري لاعادة بناء حائط الثقة المتبادلة بين المصريين و التي أثبتت كل تجارب التاريخ أنها كانت الصخرة التي تحطمت عليها كل محاولات هدم هذا الوطن. والسؤال الصعب هو... كيف يتوصل المصريون الي الحد الأدني من الثقة الذي بدونه تنهار كل محاولات الحوار؟ هل هي مسئولية النظام الذي ارتكب بالفعل الكثير من الأخطاء خلال الفترة الماضية؟ هل هي مسئولية المعارضة التي تتوهم أن سقوط الدولة سيدفع بها تلقائياً الي مقاعد السلطة، ام هي مسئولية الشعب الذي فاض به الكيل وبات أقرب الي اللجوء لاستراتيجية هدم المعبد علي رؤوس الجميع؟ يجب أن نعترف جميعاً أن هذا الوضع المرعب لم يعد من الممكن أن يستمر..وما لم تدرك كل الأطراف خطورة هذه المرحلة،فالقادم أسوأ..والطوفان قريب..