لم يدهشني الحكم الذي أصدرته إحدي المحاكم الفيدرالية السويسرية، قبل أيام، بحرمان الحكومة المصرية من حق الإطلاع علي ملف الأموال التي نهبها المخلوع حسني مبارك من شعب مصر والتي قدرت رسميا ب700 مليون فرنك سويسري. وكانت النيابة العامة في جنيف قد أقرت من قبل بهذا الحق ولكن السلطات السويسرية انتهزت حالة عدم الاستقرار التي تمر بها مصر الآن لكي تتراجع عن هذا الموقف بحجة أن قرارات الرئيس محمد مرسي الأخيرة تسببت في صدام بين السلطتين التنفيذية والقضائية بالإضافة إلي إقالة النائب العام السابق المستشار عبد المجيد محمود من منصبه وهو أحد الموقعين علي الطلب المصري بالإطلاع علي الملف!! الدهشة الحقيقية كانت عندما بادرت سويسرا بتجميد أرصدة مبارك ورموز نظامه في بنوكها بعد حوالي ساعة من سقوطه علي عكس بقية الدول الغربية التي ما زال بعضها يماطل حتي الآن في إعادة أموال الشعب المصري المنهوبة ، بما في ذلك أسبانيا التي تراجعت أيضاً عن خطوات محدودة اتخذتها في هذا الاتجاه.. وكانت بعض الدول قد استجابت للضغوط الاخلاقية وجمدت حسابات مبارك ورموز نظامه وبدت وكأنها تتحدي مصالح البنوك والمؤسسات الرأسمالية وهي المستفيد الأول من هذه الأموال الموجودة في حسابات سرية لا يعرفها سوي من سرقوها وتعود ملكيتها إلي هذه البنوك في حالة وفاة أصحابها من الطغاة ولصوص الشعوب . وبمرور الوقت ، اتضح ان مواقف هذه الدول كانت مجرد خدعة ومحاولة لذر الرماد في العيون بدليل العقبات والعراقيل التي وضعتها لمنع إعادة الأموال المنهوبة لأصحابها الشرعيين وتراجعها عن أي خطوات ايجابية اتخذتها من قبل في هذا الاتجاه.. وحجم الأرصدة المنهوبة ربما يبرر الموقف الإجرامي الذي تتخذه هذه الدول ومؤسساتها، المعروفة باسم "الملاذات الآمنة" للأموال القذرة، والذي يجعلها شريكا أساسيا في جريمة نهب الشعوب.. آخر تقرير لمنظمة النزاهة المالية العالمية في واشنطن يؤكد أن الدول النامية فقدت ستة تريليونات من الدولارات خلال السنوات العشر الماضية بسبب الفساد والسرقة وتهريب الأموال! وقال ريموند بيكر مدير المنظمة إن مبالغ فلكية من الأموال القذرة ما زالت تتدفق من الدول النامية إلي ملاذات آمنة وبنوك في البلدان المتقدمة في نزيف مستمر من دماء الفقراء لدعم اقتصاديات الأغنياء.. وبلغ حجم الأموال القذرة التي تم تهريبها من بلد واحد مثل العراق 22 مليار دولار في عام 2011 بينما لا يجد الأطفال العراقيون الغذاء والدواء.. أما حجم الأموال التي تم تهريبها من الصين في نفس العام فقد بلغ 602 مليار دولار.. هذه القضية لم يعد من الممكن تفسيرها في إطار فساد بعض المسئولين أو الحكام الطغاة. فقد تحول نهب أموال الشعوب من مجرد جريمة يرتكبها طاغية فرد إلي تورط نظم بأكملها في سرقة موارد بلادها وهو ما يطلق عليه الآن اسم كليبتوكراسي Kleptocracy" " وهي كلمة إغريقية تعني تحالف مجموعة من الأقارب والمحاسيب لاستغلال الحكم من أجل نهب البلاد بكل طرق وأدوات الفساد. هذه الكليبتوكراسي تطرح تحديا أمام الشعوب، ربما يكون أشد صعوبة من مواجهة ديكتاتور مستبد أو حاكم لص، وهو التدقيق في اختيار الأنظمة التي تحكمها ومراقبة سياساتها ومسئوليها الذين يجب ألا يكونوا في أي لحظة فوق مستوي الشبهات.. أما المجتمع الدولي فمسئوليته هي مطاردة هذه "الملاذات الآمنة" للأموال القذرة. وإذا كان القانون في كل مكان يحاسب من يساعد اللص علي إخفاء ما سرقه، فالأولي أن يتخذ العالم إجراءات عقابية رادعة ضد أي دولة تشارك في الجريمة وتسمح بإخفاء الأموال المنهوبة في بنوكها ومؤسساتها المالية.