بعد أيام قليلة تحل علينا ذكري رحيل نجيب محفوظ، حاملة مزيدا من الجدل حول ابداعاته وكتاباته التي مهما اختلف او اتفق عليها البعض تظل علامة فارقة في تاريخ الابداع العربي ودروسا مستفادة لكل عشاق المعرفة والتاريخ، كتاباته صورة لتاريخ امة بأكملها سياسيا واجتماعيا وجغرافيا أيضا.. ومن حين الي آخر تحتاج أعماله إلي إعادة قراءة وتأمل ، لان اعماله أثرت بشكل أو بأخر في اجيال كثيرة وستظل لأنه ببساطه قدم فكرا ثقافيا ورؤية شاملة للعالم من حوله وأوضح العلاقة بين الدين والحياة والسياسة والإنسان في رواياته، حتي عندما سئل لماذا لم يكتب مقالات مثل يوسف إدريس، ذكر محفوظ أن آراءه السياسية وتآملاته الفلسفية تقبع في روايته، لذلك لم يراهن محفوظ علي الحدوتة ولكنه راهن علي رسالته في ما وراء الحدوتة. لقد تميزت رواياته بالقدرة علي التفاعل مع المجتمع وقضاياه، كما تميز أسلوبه بالبساطة والقرب من الناس مما حقق له شعبية منقطعة النظير في العالم العربي كله. ونظرا لمقدرته الفائقة علي رسم صور ثرية ومليئة بتفاصيل الحياة الدقيقة لأهالي القاهرة وقضاياهم ومشاكلهم الاجتماعية والسياسية والدينية اخترت من بين العديد من ابداعات كاتبنا الكبير كتاب " أصداء من السيرة الذاتية " لإعادة قراءة بعض سطوره التي تحمل خلاصة فكره ورؤيته في الحياة وفلسفته التي خلص بها من تجربة الكتابة والإبداع: دعاء دعوت للثورة وأنا دون السابعة. ذهبت ذات صباح إلي مدرستي الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلي سجن، بيدي كراسة وفي عيني كآبة، وفي قلبي حنين للفوضي، والهواء البارد يلسع ساقيّ شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير: - بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا. غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلي شاطيء السعادة، ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلي الأبد. دين قديم في صباي مرضت مرضا لازمني بضعة أشهر. تغير الجو من حولي بصورة مذهلة وتغيرت المعاملة. ولت دنيا الإرهاب، وتلقتني أحضان الرعاية والحنان. أمي لا تفارقني وأبي يمر عليّ في الذهاب والإياب، وإخوتي يقبلون بالهدايا. لا زجر ولا تعيير بالسقوط في الامتحانات. ولما تماثلت للشفاء خفت أشد الخوف الرجوع إلي الجحيم. عند ذلك خلق بين جوانحي شخص جديد. صممت علي الاحتفاظ بجو الحنان والكرامة. إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة فلأجتهد مهما كلفني ذلك من عناء. وجعلت أثب من نجاح إلي نجاح، وأصبح الجميع أصدقائي وأحبائي. هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي. قطار المفاجآت "في عيد الربيع يحلو اللهو ويطيب. وقفنا جماعة من التلاميذ في بهو المحطة بالبنطلونات القصيرة. وبيد كل سلة من القش الملون مملوءة بما قسم من طعام. وكان علينا أن نختار بين رحلتين وقطارين. قطار يذهب إلي القناطر الخيرية، وآخر يمضي إلي جهة مجهولة يسمي بقطار المفاجآت. قال أحدنا: - القناطر جميلة ومضمونة. فقال آخر: - المغامرة مع المجهول أمتع. ولم نتفق علي رأي واحد. ذهبت كثرة إلي قطار القناطر، وقلة جرت وراء المجهول." حمام السلطان حلمت مرة أنني خارج من حمام السلطان. تعرضت لي جارية ودعتني إلي لقاء سيدتها. ومالت بي في الطريق إلي حجرتها لتهيئتي للقاء كما يملي عليها واجبها. وألهاني التدريب عن غايتي حتي كدت أنساها. ولما وجب الذهاب، ذهبت إلي السيدة الجميلة وأنا من الخجل في نهاية. ووقفت بين يديها منهزما وقد علاني الصدأ. هكذا تحول الحلم إلي كابوس. وكان لا بد من معجزة لتشرق الشمس من جديد. التحدي في غمار جدل سياسي سأل أحد النواب وزيرا: - هل تستطيع أن تدلني علي شخص طاهر لم يلوث؟ فأجاب الوزير متحديا: - إليك - علي سبيل المثال لا الحصر - الأطفال والمعتوهين والمجانين، فالدنيا ما زالت بخير.. المليم وجدت نفسي طفلا حائرا في الطريق. في يدي مليم، ولكني نسيت تماما ما كلفتني أمي بشرائه. حاولت أن أتذكر ففشلت، ولكن كان من المؤكد أن ما خرجت لشرائه لا يساوي أكثر من مليم.. الطاهر رأت الشيخة رجلا حائرا وهي تسير في السوق بجلبابها الأبيض وخمارها الأخضر فسألته: - عم تبحث يا رجل؟ فأجاب بصبر نافذ: - أبحث عن ماء طاهر. فقالت بلهجة لم تخل من عتاب: - لا يوجد ما هو أطهر من عرق المرأة. الفتنة كنت أتمشي عند الباب الأخضر فصادفت درويشا منتحيا جانبا بامرأة. كانت وسيطة العمر، ريانة الجسم فواحة الأنوثة، محتشمة النظرة. ولما اقتربت منها سمعتها تقول: - يا سيدنا، إني أرملة، أعيش مع شقيقتي، مستورة والحمد لله، ولكني أخاف الفتنة. فقال لها: - أدي الفرائض. فقالت بصدق: - لا تفوتني فريضة. وأضافت: - وأسمع تلاوة القرآن لدي كل فرصة. فقال: - لن يمسك الشيطان. فقالت: - ولكني أخاف الفتنة. 000 "كان أول ظهور الشيخ عبد ربه في حينا حين سمع وهو ينادي: "ولد تائه يا أولاد الحلال" لما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال: - فقدته منذ سبعين عاما فغابت عني جميع أوصافه ." 000 "مضي زمن قبل أن يلتفت إليّ وتلتقي عينانا. ولما شاعت ابتسامة في ملامحه، وثبت إلي جانبه وقلت: - اقبلني في طريقتك... فسألني: - ماذا يدفعك إلينا؟ فقلت بعد تردد: - أكاد أضيق بالدنيا وأروم الهروب منها. فقال بوضوح: - حب الدنيا محور طريقتنا وعدونا الهروب ". 000 ولما سئل الشيخ عبد ربه التائه: هل تحزن الحياة علي أحد ؟ فأجاب : نعم إذا كان من عشاقها المخلصين.