كيف كان نجيب محفوظ سيتصرف لو أن ثورة الخامس والعشرين من يناير قامت وهو علي قيد الحياة؟ هل كان سيذهب لميدان التحرير؟ ولو ذهب ماذا كان سيقول لشباب التحرير؟ اسئلة افتراضية كثيرة وجهت لي منذ الخامس والعشرين من يناير حتي الآن. والاجابة عن سؤال افتراضي لاتخرج عن اجابة افتراضية. لكني قبل الدخول في عالم افتراضي من السؤال والاجابة عنه أقول أن أكثر الاتصالات التي أسعدتني خلال ثمانية عشر يوما هي أيام الثورة كان اتصال من أسرة نجيب محفوظ من أجل الاطمئنان علي وعلي أسرتي. وقد خجلت لحظتها خجلا لا حد له ومن الصعب وصفه. لأنه من المفروض أن اسأل أنا وأن اتصل بهم وأن اطمئن عليهم. ورغم برودة الشتاء فقد عرقت من شدة الخجل ولم أستطع الرد علي تصرف لا يمكن وصفه. توفي نجيب محفوظ في13 اغسطس سنة6002 وقامت الثورة في52 يناير سنة1102 ولو امتد به العمر حتي قيام الثورة لكان قد حقق أمنية شخصية لي. فقد كنت أتمني لو أن الأجل امتد به قرنا من الزمان. فالرجل مولود في1191/21/11 لكن ارادة الله تسبق الأمنيات وتبدو أكثر صدقا من كل الأحلام. تعالوا نفترض أن الثورة قامت وهو علي قيد الحياة. هل كان سيذهب للتحرير؟ لا أعتقد أنه كان سيذهب لسبب شديد البساطة أن حواس الرجل لم تكن تعمل بشكل جيد في سنوات عمره الأخيرة. فرؤيته كانت كليلة حتي في النهار. وسمعه بسيط. ومع هذا كان حريصا علي متابعة كل ما يجري في مصر. كان يسألنا عن الأخبار وعن الرؤي وعن أحوال مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعن علاقاتها الدولية. بعد نوبل كان من عادة نجيب محفوظ الجلوس في مقهي علي بابا في ميدان التحرير. ومن هذا المقهي كنا نشاهد الميدان صباحا. كان يصل اليه في السابعة ويتركه في العاشرة. ويقضي ثلاث ساعات في قراءة الصحف وشرب القهوة والنظر الي الميدان متأملا أحوال أهل مصر. وبعد أن يخرج من المقهي يلمع حذاءه علي الرصيف. ثم يتمشي في منطقة وسط القاهرة ويعود الي منزله علي قدميه كما يحضر الي ميدان التحرير كل يوم صباحا. ويحرص علي مصافحة كل من في الميدان من ضابط الشرطة حتي عامل النظافة. علي أن علاقة الرجل بالثورة لاتحتاج كتابة مني. فقد قامت ثورة9191 وهو في الثامنة من عمره. وبعد قيامها بثلاثين عاما كتب عنها روايته الفريدة: ثلاثية بين القصرين وقصر الشوق والسكرية. التي نشرت سنة9591 أي في الذكري الأربعين لقيام الثورة. وفي الرواية يخلد الثورة من خلال أسرة السيد احمد عبد الجواد. بل ان الجزء الأول من الثلاثية ينتهي باستشهاد فهمي عبد الجواد ووصول زملائه الي وكالة الوالد ليخبروه باستشهاد الابن. وفي الفصول السابقة نقرأ حوارا مطولا بين الأب والابن عن الدفاع عن الوطن والمشاركة في المظاهرات والثورة والجدل الجميل والذي يمثل علاقة بديعة بين الأب والابن. رغم كل ما يقال عن دكتاتورية السيد أحمد عبد الجواد والذي يضرب به المثل الآن في المجتمع المصري اذا أردنا الاشارة للأب المتسلط. عندما قامت ثورة يوليو2591 كان نجيب محفوظ في الحادية والأربعين من عمره. وقد توقف عن الكتابة بعدها وقال إن قيام الثورة حقق أحلامه التي كان يكتب لتحقيقها وحلت المشاكل التي كانت تعاني منها مصر. لذلك مر بمرحلة سماها باليأس الأدبي وتوقف عن الكتابة سبع سنوات بعد قيام الثورة. وكان نصه الأول عن يوليو هو روايته: السمان والخريف. التي نشرت بعد عشر سنوات من قيام الثورة. واختار أن يقدم فلول الماضي السابق علي الثورة في الراوية من خلال عيسي الدباغ رجل الوفد الذي لم يستطع أن يكون جزءا من الواقع الجديد بعد قيام ثورة32 يوليو. قال لي نجيب محفوظ إن موقفه المنتقد لثورة يوليو كان من تحت مظلتها. بمعني أنه لم يطلب حكم قوة أخري غير رجال يوليو. لكنه انتقد غياب الديمقراطية والسجون والمعتقلات في زمنها وكان يتمني لو أنهم أصلحوا من أحوالهم وتخلصوا من عيوبهم وواجهوا المشاكل الناتجة لوجودهم في الحكم. لكن انتقاده لم يمتد لأن تأتي قوة غيرهم لتحكم البلاد. وهذا الكلام يصحح الكثير من اللغط الذي يدور حول موقف نجيب محفوظ من يوليو. فقد قدم نجيب محفوظ أفضل ما لديه خلال عشر سنوات يعتبرها المربع الذهبي في كتابته الروائية من9591 حتي.9691 وفيها قدم كتاباته التي انتقدت التجربة اليوليوية سواء في القصة القصيرة او النص الروائي. وخلالها نشر: اللص والكلاب, السمان والخريف, الطريق, الشحاذ, ثرثرة فوق النيل, ميرامار, وفي القصة القصيرة: دنيا الله, بيت سييء السمعة, خمارة القط الأسود, تحت المظلة. وليس أدل علي حبه للثورة وايمانه بها أنه يفتتح روايته البديعة: أصداء السيرة الذاتية بدعاء. يكتب فيه: دعوت للثورة وأنا في السابعة. ذهبت ذات صباح الي مدرستي الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق الي سجن. بيدي كراسة وفي عيني كآبة, وفي قلبي حنين للفوضي, والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة. والفراش يقول بصوت جهير: - بسبب المظاهرات لادراسة اليوم أيضا. غمرتني موجه من الفرح طارت بي الي شاطيء السعادة. ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة الي الأبد. المزيد من مقالات يوسف القعيد