قبل عشر سنوات تقريباً، كنت رئيساً لتحرير مجلة »آخر ساعة« العريقة. وكنت قد بذلت مجهوداً كبيراً مع زملائي فيها، لتطوير المجلة شكلاً ومضموناً وزيادة توزيعها لأول مرة. وفجأة وقع حادث قطار الصعيد الذي احترق، وراح ضحيته أكثر من 006 راكب. وكانت كارثة مفجعة، كشفت الإهمال الجسيم، وتردي وانحطاط أوضاع السكة الحديد، رغم ملايين ملايين الجنيهات، التي خصصت لإنقاذ السكة الحديد في مصر. وكان قلبي يدمي لمصيبة الصعايدة، وأوضاع صعيد مصر، الذي كتب عليه أن يعاني من الإهمال والتجاهل والفقر، ووجدت نفسي أضع علي غلاف المجلة صورة أحد رجال الإسعاف داخل القطار، بعد أن التهمت النيران كل هؤلاء الركاب الأبرياء، وكان رجل الإسعاف يحمل علي يديه قطعة فحم كبيرة، كانت راكباً تفحم في حريق القطار! كانت صورة الغلاف مؤلمة وقاسية، وبليغة إلي حد أنني نشرتها، دون أن أكتب عليها عنواناً، كانت الصورة البشعة تقول وحدها كل شيء، دون حاجة إلي أية كلمات، تقول الحال البائس الذي وصلت إليه مصر التعيسة! لكن ما إن خرجت مجلة »آخر ساعة« من المطبعة، وأعدت النظر إلي الغلاف، حتي انقبض قلبي، وأدركت أنني لابد سوف أدفع ثمن ما فعلت غالياً، وهو ما حدث بالفعل في اليوم التالي، وفوجئت بخروجي من مجلة »آخر ساعة«، إلي »أخبار الحوادث«! لم تعجب الصورة المسئولين الكبار، ووجدوا فيها طيشاً وخروجاً علي حدود النقد الصحفي، هكذا وجدت نفسي مطروداً من »آخر ساعة«، التي بذلت فيها وأحببتها، واعترف الجميع بنجاحها. ولا أعتقد أن اليوم قد تغير عن الأمس، فمازالت القطارات والسكة الحديد في مصر علي حالها وأسوأ، مازالت حوادث القطارات تتكرر، ومازالت دماء الضحايا وأرواحهم علي القضبان. أما أنا فقد دفعت الفاتورة كاملة وفادحة، وأجلسوني علي رصيف شارع الصحافة، لا حول لي ولا قوة، مهدداً بقطع لساني، وقطع رزقي القليل، وألا أجد غداً ثمن لقمة العيش والدواء، بمعاش الألف جنيه، الذي كان مقابلاً لرحلة عطاء سنوات العمر! مصر.. يا عيني عليها.. وأنا.. حسبي الله ونعم الوكيل!