أستأذن القارئ العزيز ألا يتعجل في محاولة فهم المقصود من عنوان اليوميات.. لأنه بداية ليس مجرد عنوان مثير. ليست هذه هي المرة الاولي التي أزور فيها فرنسا زرتها عدة مرات، زرت باريس، ونيس، وحتي إمارة موناكو التي أحسبها أنا بصورة أو بأخري جزءا من الكيان الفرنسي بغض النظر عن السيادة وليس هذا موضوعنا.. هذه المرة التي تلقيت دعوة كريمة من وزير الثقافة بالمشاركة في مهرجان ثقافي مصري في مدينة بالقرب من باريس.. ولم أتردد في قبول الدعوة. . واكتشفت بعد وصولي ان هذا القرب يستلزم سفر 10 ساعات اكرر عشر ساعات في الاتوبيس، او 6 بالقطار اضافة إلي ساعتين اخريين في اتوبيس ينقلنا إلي المدينة التي يقام فيها المهرجان. اسُبلتيه.. هكذا ينطقون اسمها، احدي قري الجنوب الفرنسي، لا يبعدها عن الحدود الاسبانية الا عدة كيلو مترات.. قرية صغيرة تعداد سكانها لا يتجاوز ال 2000 نسمة، ولكني لم اجدها مثل توقعي في قري الحدود، منسية، منفية، ليست من حسابات الحكومة المركزية، أحكم علي الامور بثقافتي، وتاريخي مع البيروقراطية المصرية التي تتبرأ من الاطراف، ولا تهتم الا بالقلب، المريض العليل الموجوع، وجدت قرية ضمن مجموعة من القري تتنافس فيما بينها تنافسا شريفا في الجمال، والنظافة، وفي محاولة صنع هوية ثقافية تنعكس ايجابيا في ايجاد مورد سياحي للقرية يساهم في زيادة دخلها. بداية، القرية فيها كل ما يمكن ان تنشده وتحلم به كأساسيات حياة، من مكتب بريد متكامل الخدمات علي اعلي مستوي إلي مكتب سياحي يقدم خدمات حقيقية ويتخذ من اقدم مبني اثري في القرية مقراً له إلي مقر للشرطة، «الفنادق الصغيرة» او «الموتلات» موجودة.. المرور وعلامات المرور في كل مكان، وكل منحدر وعلي قمم الجبال ومنحدراتها.. الدولة حاضرة بقوة رغم عدم وجود عسكري مرور واحد، ويؤسفني ان أتحدث كالعادة، وكعادة كل من سافر إلي اوروبا او دولة متحضرة عن النظافة، وعن صناديق القمامة الموجودة والمتوافرة في اماكن ثابتة ومعروفة.. انها منظومة ناجحة متكاملة مدعومة بسلوكيات المواطن الذي يغار علي بلده، ويسعي ان تكون نظيفة جميلة تليق بالسائح الذي يأتي ويدفع الغالي والرخيص من اجل قضاء عدة ايام في فرنسا.. بالمناسبة فرنسا هي القبلة الاولي ل 85 مليون بني آدم علي وجه الارض ذهبوا اليها لقضاء اجازاتهم، تخيل كم انفق كل واحد من هؤلاء لتعرف اين يكمن عنصر القوة في الاقتصاد الفرنسي. اعود إلي اسُبلتيه هذه القرية الصغيرة، ماذا يمكن ان تجده لديها يميزها عن غيرها وتجعل السائح يأتي لها ويقيم فيها.. اقول لك.. سكان هذه القرية عبارة عن مزارعين، ومربين للماشية والابقار، يمتلكون المروج الخضراء المحيطة بقريتهم.. انها الجنة التي يمكن ان تراها علي الارض، اينما وليت وجهك وبصرك ستجد اللون الاخضر بجميع درجاته.. لم أرها الا هنا.. كان من الصعب ان ادرك ذلك الا بمساحة مفتوحة الجبال بارتفاعاتها المختلقة حولك من كل اتجاه.. تري في اقصي المشهد بيتا علي قمة جبل، تراه قريبا لكن الامر يستلزم ربما ساعة او اكثر من المشي ونصف ذلك بوسيلة انتقال .. السحاب ينتصف الجبل امام ناظري، المروج مغرية للعين وللماشية التي ترعي في ارض الله.. كل له سياجه.. هذه الاغنام تعرف سبيلها ترعي في حدودها والسياج السلكي يحفظ الحقوق... واشاهد رجلا وحيدا يعتلي الجرار، ويقوم بحرث عدة افدنة، واتذكر الفلاح المصري الغلبان المحاصر بعجز حكوماتنا، وامراض الكبد والبلهارسيا.. ما أتذكره يشوه ما أري.. كيف لي ان اتذكر النار وأنا وسط جنة الله.. لا سبيل للمقارنة. أعود مجددا إلي اسبلتيه.. بحث اهل القرية ووجدوا انهم متميزون في اشياء، ويشتركون مع الآخرين في اشياء.. وجدوا انهم متميزون في زراعة الشطة الحمراء.. ايوة الشطة، وفي تربية الاغنام والابقار.. كيف اذن يتم توظيف ذلك؟ خلقوا صورة ذهنية للقرية تقوم علي ربطها بقرن الشطة الاحمر.. كيف؟ هل تذكرون ماذا كانت تفعل امهاتنا بقرون البامية. كانوا يسعون إلي تجفيفها ب «لضمها» بخيط ينفذ في رأس قرن البامية، ثم تركها معلقة في الشرفة حتي تجف ونستخدمها في الشتاء عندما تختفي البامية الخضراء.. والبعض كان يفعل ذلك مع قرون الشطة. في اسبلتيه يفعلون نفس الشيء مع قرون الشطة ذات اللون الاحمر القاني يجففونها بنفس الطريقة، ويعلقونها في واجهة المنازل والمحال التجارية.. ايوه إلي هنا والامر قد لا يكون مغريا للسائح، وظفوا الامر بطريقة اكثر احترافية واغراء صنعوا من الشطة بدرجات قوتها منتجات خاصة بالقرية.. شطة بالملح.. وبالفلفل، وبأنواع اخري من البهارات بتوليفة خاصة بهم.. الاغرب هو شيكولاتة بالشطة.. نعم والله شيكولاتة بالشطة. احتفوا بنا في يوم، ورتبوا زيارة لمصنع شيكولاتة صغير وشاهدت اسرار صناعة الشيكولاتة بالشطة وانت حسب ذوقك.. قد تتحمل الشطة «الحامية» او الاقل.. السيدة التي كانت تشرح لنا قدمت لي شيكولاتة بشطة حامية لانني من احفاد الفراعنة العظام الذين يتحملون الشطة.. وهي لا تعلم انني قد اموت فيها. إلي هنا لم ينته الأمر انتظر من فضلك.. لن تزور اسبلتيه الا وقد اشتريت «سوفونير» او تذكارا عبارة عن قرون شطة ديكور من الخزف بأحجام مختلفة بداية من اصغر حجم يوضع كميدالية في اليد او بحجم كبير يستخدم في الديكور، وحتي سلاسل الصدر والحلقان للسيدات عبارة عن قرون شطة... ستجد لوحات، واكوابا للشرب، وطاولات لتقديم الطعام وصواني قائمة علي استغلال فكرة قرن الشطة.. اضافة إلي صور الاغنام وصور المروج الخضراء كل هذا بالاضافة إلي انواع الجبن المحلي المصنوع يدويا بمواصفات خاصة ببصمة هذا القرية. هل اكتفت هذه القرية بعد النجاح الذي انعكس في امتلاء غرف الفنادق والموتيلات؟ هل وضع سكان القرية ايديهم علي وجوههم وراحوا يبكون بعدهم عن العاصمة.. والبعيد عن العين بعيد عن القلب في مصر فقط؟ فكروا ودعوا لمهرجان سنوي لفلكلور الاطفال من كل بلاد العالم.. الفكرة قد تكون مكلفة كما نفعل في مصر.. ولكن في اسبلتيه يأتي الدرس.. لم يكلفوا انفسهم يورو واحد.. العكس هو الصحيح كيف؟ كبار رجال القرية تقدموا كرعاة.. الفرق تقيم في بيت شباب، ولكن البيت لن يكفي.. اذن يتم توزيع الفرق علي الاسر.. كل اسرة تستضيف عددا من الاطفال في بيتها.. واثناء التدريب يتناولون طعامهم في مطعم مدرسة لم يكتفوا بهذا، بل جعلوا الدخول للحفل بتذكرة قيمتها 20 يورو ما يعادل 200 جنيه توجه لمصاريف النقل وغيره.
لا اسعي إلي جلد الذات، ولكن اسعي إلي تكرار التجربة، لدينا عشرات، بل مئات القري التي بها بصمة في صناعة شيء معين.. صناعة فخار، صناعة اقفاص الجريد، صناعة التللي، حتي خبز العيش الشمسي والبتاو في صعيد مصر.. لماذا لا تكون هناك منظومة متكاملة وحقيقية.. واكرر حقيقية لتحويل تلك القري إلي قري سياحية منتجة، يكون لها من يروج صورة ذهنية عن هذه القرية او تلك.. ستجد من يزورها من داخل مصر، ومن خارجها.. يجب ان نؤمن اصلا بامكانياتنا ليؤمن بنا الآخر. أدعو وزير السياحة القادم من عالم البزنس الخاص ألا يجره موظفو الوزارة إلي الفكر التقليدي.. ادعوه لدراسة تجربة قرية اسبلتيه التي نجح فلاحوها في الترويج لها وفشل خبراء وزراء السياحة المصرية.
زرت كما قلت فرنسا عدة مرات.. لكن هذه المرة ليست ككل مرة.. هذه المرة وجدت رجال الشرطة المنتشرين في كل مكان.. اكثر صرامة، اكثر استنفارا اياديهم علي الزناد.. بالفعل وليس من قبيل المبالغة.. بمجرد وصولنا إلي مطار شارل ديجول يستقبلون الضيوف القادمين من افريقيا والعالم العربي يتفحصون الوجوه، ويتفحصون التأشيرات، ويسألون حتي لو كانت التأشيرة سليمة لماذا جئت إلي فرنسا؟.. واين ستقيم؟ وهل معك مال ام لا؟ إلي غير ذلك من الاسئلة. في الشوارع لن تمر دقائق الا وتسمع سارينة سيارات الشرطة هنا وهناك، انه الاعلان عن الحضور الامني القوي الذي يستهدف حماية الاراضي الفرنسية التي ضربتها عدة هجمات ارهابية مؤخرا كان احدثها جريمة نيس التي شهدت علي الهواء مباشرة حفل تأبين الشعب الفرنسي لضحاياها في مكان الحادث. كل الاماكن السياحية تجد فيها رجال الشرطة ظاهرين مدججين بالاسلحة.. مشهد لم اعتده في مدينة النور.. كنا دائما نقول ان رجل الشرطة الفرنسي موجود عندما تحتاجه سوف تنشق الارض عنه فجأة اذا احتجته.. الآن الوضع مختلف.. هو موجود لحماية الملايين الذين يتدفقون كالنهر علي كل مقصد سياحي في فرنسا.
لفت انتباهي سفر عشرات الاسر المصرية علي نفس الطائرة، ذهبوا بأطفالهم لقضاء اسبوع في فرنسا بعضهم اعضاء احد اندية الصفوة ذهبوا كمجموعة.. يتحدثون كلمة عربي وسط غلبة للغات الاجنبية فرنسي وانجليزي.. تذكرت مصر الموجوعة.. المهجور مقاصدها السياحية.. تذكرت الفنادق التي اطفأت انوارها قبل عدة سنوات.
رسالة إلي النمنم لا يمكن ان افوت الفرصة دون الحديث في هذا الموضوع. اوجه الحديث إلي الزميل الكاتب الصحفي حلمي النمنم وزير الثقافة والي الكاتب الصحفي د. ايمن عبدالهادي الذي تولي مسئولية قطاع العلاقات الثقافية الخارجية مؤخرا. بداية هذا القطاع يقوم بدور حيوي ومهم يعادل اهمية دور وزارة الخارجية، وكل السفارات المصرية الملحقة بها علي مستوي بلاد العالم، لذلك فميزانية هذا القطاع تأتي من وزارة الخارجية للانفاق علي الانشطة الثقافية والفنية التي تشارك فيها مصر في ملتقيات دولية لاظهار الدور الحضاري والثقافي والتنويري المصري امام دول العالم.. هذه الملتقيات قد تكون مهرجانات او ملتقيات دولية او ندوات.. إلخ. ولكن.. ولكن الامانة تحتم عليّ ان اقول ان هذا الدور انحرف كثيرا عن جادة الصواب، واصبح اهدارا للمال العام، ولابد من التدقيق عشرات المرات في نوعية ومستوي النشاط الذي ستشارك فيه مصر، لان بعضها للأسف يكون دون المستوي، وبعضه يكون وراءه أغراض خاصة، والبعض الآخر يحركه «بزنس» في الدولة المضيفة وينتهي بنا الامر إلي سفر فرقة مصرية، بتذاكر سفر وبدل سفر من الخزانة المصرية لتقدم عروضا في مهرجان يتم فيه بيع تذاكر.. اي انني آخذ من الخزانة المصرية الفقيرة لدعم خزانة الدولة المضيفة التي عادة لا يزيد الدور الذي تقوم به عن تكاليف الاقامة والتي اغلبها يتكفل بها متطوعون. د. ايمن عبدالهادي اتمني ان تقرأ جيدا الملفات التي امامك.. واعد دراسة كل مشاركة قد تبدو نمطية ودائمة.. ليس دور القطاع دعم السياحة في الدول التي نذهب للمشاركة فيها بل دوره الدعاية والترويج لمصر. وهذا لن يحدث الا بتفعيل الدور مع السفارات التي لا تقوم بدورها، للاسف بعضها يتم النشاط في نفس البلد، ولا يحضر مسئول مصري واحد.. انها الغيبة الكاملة عن الحضور عن المسئولية. نصائح حسني لمشيرة مصر دولة عظمي بالمعايير الثقافية والحضارية، ومن حقها ان تتولي منظمة اليونسكو الأمينة علي امر الثقافة والفنون والتربية في العالم.. خضنا التجربة اكثر من مرة.. مرة بصورة غير رسمية عندما خاضها د. اسماعيل سراج الدين مدعوما بترشيح بوركينا فاسو ضد المرشح السعودي ومرة ثانية كانت الاهم والاقرب إلي ملامح التجربة المتكاملة وهي الدفع بفاروق حسني ليخوض معركة شرسة ضد ايرينا بوكوفا ولكن لاسباب كثيرة فشل المرشح المصري في اللحظات الاخيرة. وفي تقديري ان اول خطوة للدفع بمشيرة خطاب كمرشح مصري لمنصب مدير عام منظمة اليونسكو لابد ان يبدأ من الاجابة عن سؤال مهم: لماذا فشل فاروق حسني، ولماذا يمكن ان تنجح مشيرة خطاب؟ هل اسم المرشح ام اسم الدولة او كلاهما الذي يحسم اسم الفائز؟! الاجابة عن كل هذا مهمة والاهم ان نسمع لتجربة فاروق حسني نفسه، لابد ان يقدم توصياته لمشيرة خطاب، لان توازنات اللحظات الاخيرة تقلب المعادلة. لابد ان نعرف ان هناك دولا عربية واكرر عربية هي التي قلبت المعادلة واطاحت بفرص فاروق حسني في الاعادة بعد ان كان متقدما علي الجميع. ولابد ان نعرف ايضا ان الدول الافريقية طرف اساسي ولاعب في حسم النتيجة مع عدم التهوين من دور إسرائيل. وهناك شيء لابد ان تعرفه ونستنتج معه ما يمكن ان يقال وهو ان مندوب الدولة التي لها حق التصويت يمكن ان يقول لدولته إنه اعطي صوته لسين او لصاد ويكون قد فعل غير ذلك مدفوعا برشاوي تقدم له لتغيير قرار دولته في اللحظات الاخيرة. هذه الأمور يجب ان تكون لدي متخذ القرار المصري في ترشيح مشيرة خطاب حتي لاتنال شرف خوض معركة اليونسكو فقط. كان من الصعب أن أدرك ذلك إلا بمساحة مفتوحة من الجبال بارتفاعاتها المختلفة تحيط بك من كل اتجاه