(... كان أخي جمال وهو رئيس للجمهورية قد اعتاد التجول في شوارع القاهرة بعد الثانية صباحا قائدا سيارته الملاكي الخاصة، دون أن يعرفه أحد أو يتوقع أحد أن داخل هذه السيارة الصغيرة رئيس الجمهورية وكانت هذه الجولات من وسائل المتعة القليلة التي كانت في حياة الرئيس!) ما أن يبدأ شهر يوليو حتي تهب علينا روائح عطرة ينثرها التاريخ حولنا لتنشط ذاكرة العواجيز أمثالنا ونستدعي منها ذكريات وكواليس ثورة يوليو وزعيمها الراحل الكبير جمال عبد الناصر.. لكن هل تحت يدي الدولة وثائق رسمية تؤرخ لهذه الثورة المجيدة بالحق والمستحق؟.. لا أظن..! نعم هناك حكايات وروايات فيها بعض الحقيقة، لكن بها أيضاً أهواء وأغراض وربما أحقاد.. المحبون بالغوا كل المبالغة والكارهون زايدوا كل المزايدة.. ظهرت كتب ومذكرات في السبعينيات لأشخاص كان بعضهم من أطقم السكرتارية للرئيس جمال عبد الناصر وبعضها لبعض المقربين وحاول صاحب كل مذكرات أن يجعل من نفسه بطلا ولو علي حساب الحقيقة ولو كان الزمان عاد به إلي عهد الرئيس عبد الناصر ما كان يجرؤ أن يفتح فمه بكلمة أو يسطرها قلمه فوق الأوراق.. وربما هذا ما دفع بالرئيس الأسبق أنور السادات إلي تكليف نائبه محمد حسني مبارك حينئذ لرئاسة لجنة تعيد كتابة وصياغة تاريخ مصر الحديث.. لكن تمر السنوات تلحق بها سنوات واللجنة لا حس ولا خبر حتي ترك مبارك الحكم الذي تولاه ثلاثين عاما بعد رحيل السادات دون أن يسأله أحد ولو من باب التطوع عن مصير هذه اللجنة التي كان مولدها علي الملأ ثم ماتت في السر.! السؤال؟.. ألم يكن الأفضل والأجدي لمصر والمصريين بأجيالهم المختلفة هيئة قومية علي أعلي مستوي لكتابة وتوثيق تاريخ مصر؟. لأنني شخصيا وبالدليل أعرف مثلا أنه كان لليخت المحروسة دفتر الصادر والوارد في رحلة نفي الملك السابق فاروق إلي إيطاليا وكان هذا الدفتر بالغ الأهمية يضم بين دفتيه المكاتبات المثيرة بين محمد نجيب رئيس مجلس قيادة ثورة يوليو حينئذ وأمير البحار اللواء جلال علوبة قائد اليخت المحروسة.. وقد رشحني ذات يوم الكاتب العملاق مصطفي أمين في الثمانينيات لصياغة مذكرات اللواء علوبة وقمت وقتها بتصوير أوراق هذا الدفتر وتسجيل ما قاله علوبة عن آخر رحلة ملكية، والمؤكد أن هذا الدفتر التاريخي موجود الآن لدي أسرة اللواء علوبة بعد رحيله قبل سنوات فماذا يفعل دفتر بقيمة وقامة وثيقة الأيام الأخيرة في رحلة المنفي وأسرار ما طلبه ثوار يوليو في خانة وارد هذا الدفتر ورد اللواء علوبة علي هذه المطالب في خانة الصادر.. ماذا تفعل هذه المعلومات المهمة في بيت عائلة علوبة وكلها عن أسرار آخر رحلة لآخر ملوك مصر ؟!.. ألم يكن أجدي لمصر والمصريين أن يكون هذا الدفتر الآن وليس غدا ملكا للدولة ممثلة في هيئة قومية يتم اختيار أعضائها بمنتهي الدقه والشفافية وعلي أعلي مستوي لتجميع وتسجيل تاريخ مصر الحديث بدءا من ثورة يوليو ومرورا بكل الأحداث المهمة والفارقة في تاريخ مصر حتي الأمس القريب وأيامنا الحالية والقادمة بإذن الله؟.. مثلا أحداث مايو في عهد السادات ودور الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري ثم استقالته أو إقالته ثم انتحاره أو وفاته الطبيعية داخل نفس البرج الذي قيل إن سعاد حسني انتحرت منه وتحدث عنها كبير الأمناء الأسبق صلاح الشاهد في كتابه بين عهدين الذي صودر في بداية الثمانينيات(!) ويمكن أن يقدم الدكتور مصطفي الفقي شهادته حول ما يعرفه عن حادث مصرع الليثي لوجوده الدبلوماسي في لندن في هذا الوقت.. ويستطيع أن يقدم رجل الأعمال أحمد كامل شهادته عما كان يدور من حوارات بينه وبين الرئيس الأسبق مبارك علي شاطئ البحر في شرم الشيخ مساء كل خميس عام 2007 وسجل كاتب هذه السطور حوارا مع إبراهيم كامل علي شريط كاسيت يحمل أسرارا سياسية خطيرة قالها مبارك لصديقه رجل الأعمال عن أسرار إنشاء حزب الوفد الجديد وكيف أصر السادات علي اصطحاب موسي صبري وآخرين معه لتسجيل أسمائهم أعضاء بالحزب لتدشين وعودة الأحزاب السياسية بقوة.. وكيف تولي إبراهيم كامل تعليم جمال مبارك السياسة تحت ولماذا كان مكتب مبارك يخفي عنه العديد من المعلومات بحجة الحفاظ علي صحته !!.. أضف إلي هذا ما تحت يدي الدكتورة هدي عبد الناصر من أوراق ومستندات مهمة بخط يد والدها الزعيم الراحل.. ومع كل الاحترام للدكتورة هدي فان هذه المستندات ليست ميراثا خاصا بأسرة الزعيم وإنما هي جزء من تاريخ مصر المبعثر مع هذا وذاك وتلك وهؤلاء!! هذه مجرد أمثلة لا تزيد عن كونها ذرة في محيط.. والأحداث والأسرار لا تعد ولا تحصي والأحياء من الشهود كثيرون فهل تستجيب الدولة لإنشاء هذه الهيئة التي تحمي تاريخ مصر من الاندثار وتحت المسمي الذي تختاره الدولة لها كي لا يتم تجريف ذاكرة الأمة المصرية ولا يظل تاريخنا المعاصر عبارة عن أوراق ومقتنيات متناثرة في أيدي أشخاص وعائلات.. ولا يتبقي في النهاية للأجيال القادمة سوي حكايات أهل الهوي والأغراض والأحقاد ؟! دفتر الأسرار في مطلع الثمانينيات ذهبت إلي فيلا اللواء جلال علوبة قائد اليخت المحروسة بجوار القنصلية الروسية بالأسكندرية والتقيت بالرجل عدة مرات لتسجيل الحوارات التي سيضمها كتابه بعد إعادة صياغتها وكان أول ما لفت انتباهي في الفيلا هو دولاب زجاجي من النوع الكلاسيك وبداخله بعض مقتنيات الملك فاروق آخر ملوك مصر وقد أهداها للواء علوبة عند وصول اليخت لميناء نابولي ومنها الرصاصة التي قتلت أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء داخل الحرز القضائي (!) وقلم الحبر الذي وقع به الملك وثيقة التنازل عن العرش مرتين!!.. ولحسن الحظ قمت وقتها وقبل أن نختلف علي إصدار الكتاب بتصوير دفتر الصادر والوارد لليخت المحروسة وهو يسجل من خلال أجهزة الاستقبال والإرسال المخاطبات الرسمية بين رئيس مجلس قيادة ثورة يوليو وردود جلال علوبة نيابة عن الملك وأسرته وبه من الأسرار ما يسيل له لعاب التاريخ !.. ففي الجزء الأخير من الدفتر يفند علوبة مبلغ العشرة آلاف جنيه التي خصصتها الثورة لرحلة نفي الملك ولم ينفق منها الملك سوي مائتين واثنين وأربعين جنيها.. وخمسمائة وخمسة وتسعين قرشا بالتمام والكمال، كما يؤكد كشف الحساب المسجل في دفتر الصادر والوارد !.. وأعاد علوبة إلي مجلس قيادة الثورة باقي العشرة آلاف جنيه.. تقول تفصيلات الكشف تم إنفاق مبلغ واحد وخمسين جنيها وثماني مائة وسبعين مليما في شراء مأكولات لكل الموجودين علي اليخت «المحروسة» بمن فيهم جلالة الملك والحاشية، التي تتكون من «يعقوب نظير وعابدين سليمان وشاكر آدم ورستم عبد الرحيم»، وهم خدم جنسيتهم ألبانية.. و»إدوارد كافاتس» خادم إيطالي.. و»جوزيف جارو وبيترو دبلافالي» حلاقان إيطاليان.. والآنسات «سيمون باكوريه وآن متيز وفيوليت جرو» مربيات سويسريات.. و»روجير بيكارد» مربية فرنسية! وتم إنفاق مبلغ جنيه وسبعمائة وخمسين مليما في شراء خبز.. وسبعة جنيهات ومائة وتسعين مليما في شراء خضراوات.. وخمسة جنيهات ومائة وأربعين مليما في شراء فاكهة.. وثلاثة جنيهات لشراء أسماك.. وجنيه ومائتين وثمانين مليما لشراء بن وشاي.. وجنيهين وأربعمائة مليم في شراء 12 زجاجة برتقال.. وثلاثة وثمانين جنيها وثماني مائة وخمسة وسبعين مليما في شراء سجائر لأفراد اليخت.. وستة وسبعين جنيها منحة لأفراد اليخت.. وعشرة جنيهات ثمن أدوية!. وكانت أول برقية في دفتر الوارد موقعة من الفريق محمد نجيب قائد عام القوات المسلحة يقول نصها: - عليكم الإبحار باليخت المحروسة اليوم الساعة 1800 لنقل حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول إلي خارج البلاد بعد تنازله عن العرش والعودة بهذا اليخت سليما إلي ميناء الأسكندرية مباشرة. والمثير أن ثاني برقية كانت بتوقيع المواطن تاجر الأقطان عبد الحميد أباظة ويقول نصها ( مع السلامة يا جلالة الملك ).. كان هذا المواطن هو المصري الوحيد الذي ودع الملك ويقول قائد اليخت إنه ظل مندهشا من هذه البرقية التي لم تلتقطها أجهزة الرقابة أو ربما كان وراءها سر لا يعلمه أحد ! دموع ملكة برقية أخري يلتقطها جهاز الاستقبال ويسجلها دفتر اليخت وموقعة من الفريق محمد نجيب يأمر فيها قائد اليخت بالتحفظ علي المدعو محمد حسن والطيار عاكف وسبائك الذهب.. ! يقول علوبة: عندما كنا ننقل حاجات وأشياء الملك إلي المحروسة التقط أحد المصريين الصحفيين صورة لأحد حراس القصر وهو ينقل صندوقين مغلقين إلي اليخت.. الحقيقة أنها كانت مياهاً غازية.. لكن الصحافة ادعت أن بها سبائك ذهبية.. كما أن البعض أشاع أن محمد حسن والطيار عاكف أنهما قد تم تهريبهما في اليخت ليتفاديا انتقام الثورة منهما.. لهذا قمت بالرد علي مجلس قيادة الثورة بالبرقية التالية: إلي سعادة قائد عام القوات المسلحة: رداً علي إشارة سعادتكم.. الصناديق المذكورة تحتوي علي مشروبات روحية ومرطبات وعددها (42) ولا يوجد بها أشياء ثمينة أو ذهب ، ، كما أن محمد حسن والطيار عاكف لم يكونا ضمن الركاب علي اليخت. أمير البحار: جلال علوبة وتصل البرقية الأخيرة إلي دفتر «الوارد».. باليخت المحروسة.. يقول نصها: «يصير تنفيذ تعليماتنا بخصوص إنزال الملك السابق وابنه وبناته وزوجته.. وملابسهم الخاصة.. وعدم السماح لأي فرد آخر بالنزول.. ولا بنزول مصاغ خاص أو جواهر أو سبائك ذهب أو تحف أو أوان ثمينة.. والرجوع إلي الموانئ المصرية فورا والإفادة. وكان توقيع البرقية من اللواء «محمد نجيب» قائد عام القوات المسلحة!.. هنا يحدث هرج ومرج فوق ظهر اليخت المحروسة يجهش أفراد الحاشية بالبكاء تحت قدم الملك، لأن عودتهم إلي مصر وعدم نزولهم مع «فاروق» في ميناء نابولي قد يعني ضياعهم.. فالمؤكد أن المحاكمات تنتظرهم إذا هم رجعوا إلي مصر ثانية.. يرق قلب فاروق لحاشيته.. يطلب من اللواء «جلال علوبة» أن يرد ببرقية يهدد فيها الملك باللجوء إلي البوليس الإيطالي لحسم الأمر، إذا أصر الضباط علي مطالبهم بعودة الحاشية إلي مصر في نهاية الرحلة. .. وتصل برقية قائد المحروسة إلي مجلس قيادة الثورة.. وكانت المفاجأة عندما جاء الرد علي اليخت المحروسة بتوقيع اللواء نجيب أيضا.. ويقول نصه: - «ردا علي إشارتكم المبلغة إلينا.. وبعد موافقة مجلس الوزراء.. رجاء العلم أن سعادة القائد العام قد وافق علي طلبكم!». يتذكر اللواء «جلال علوبة» أن هناك أمرا آخر بعدم السماح بنزول أي ذهب أو مصاغ في نهاية الرحلة.. ينظر إلي مجوهرات الملكة ناريمان.. لكن ناريمان تبكي وتصرخ في حزن: «اتركوني وشأني».. وهنا يتراجع أمير البحار قائد المحروسة ويقرر تجاهل الرد علي إشارة الذهب.. مهما كانت العواقب!. هذه مجرد أمثلة لمحتويات دفتر يسجل أسرار آخر رحلة لآخر ملوك مصر وتتوارثه عائلة الراحل علوبة وليس تحت يد جهة رسمية تؤرخ لتاريخ مصر حتي الآن.. هل لو كان هذا الدفتر في أي دولة أوربية كان سيترك هكذا لتموت هذه الأسرار بمرور الوقت؟!.. الفراعنة سجلوا تاريخنا منذ آلاف السنين للعالم كله ونحن فشلنا حتي في تسجيل تاريخنا المعاصر لأجيالنا القادمة !! سعدية هانم وفي منتصف الثمانينيات كشف الكاتب الراحل الكبير محسن محمد بعض الرسائل الشخصية المتبادلة بين عبد الناصر وصديق طفولته وشبابه حتي نهاية العمر المستشار حسن النشار وعبر محسن محمد في مقال ناري مثير عن الأهمية القصوي لهذه الرسائل التي تقدم صورة كاملة للجانب الإنساني من حياة عبد الناصر منذ كان ضابطا صغيرا في منقباد وحتي بعد توليه حكم مصر ومنها رسائل يتحدث فيها عبد الناصر عن المرأة التي كان يريد التقدم للزواج منها وماذا كان رأيه في شباب تلك الأيام.. في إحدي هذه الرسائل يقول عبد الناصر للمستشار النشار: عزيزي حسن.. أبلغك سلامي، وأرجو أن تكون بخير وماشي في الامتحان زي الجدع.. لم أرك من مدة طويلة، ولا أعرف للآن هل هذا ذنبي أم ذنبك أم ذنبنا نحن الاثنين (زي ما تشوف).. وقد سمعت من عبد الرءوف جبريل إنك متأثر وزعلان لخلف الميعاد، ولكنني أحب أن أقول لك إنه في هذا اليوم.. كان تأخري لحضور عمي وعبد الرءوف في الميعاد.. وأظنك تستغرب إذا قلت لك إنني لم أر عبد الرءوف من يوم شم النسيم إلا مرة واحدة.. وسأقول لك يا أستاذ عن السبب.. أظن قلت لك بأني عزلت إلي شارع زغلول بالظاهر وبينما كنت أتجول في أحد الأيام وجدت «سعدية هانم».. وطبعا أظنك تقدر تعرف إيه اللي جري لي في تلك الساعة.. ومن يومها وأنا أبحث عن منزلها في الظاهر، حتي عثرت عليه أخيرا، بعد جهد.. وهو يقع بشارع الخليج أمام سينما فيكتوريا، وبما أنه عندي عمل بعد الظهر يومي السبت والثلاثاء فإني «أمتع نظري باقي أيام الأسبوع».. ويشهد الله أنني لم أحاول تتبعها، ولا معاكستها حتي أنزه عن نفسي عبث الشباب الحديث.. وحتي لا يقال عنها القيل والقال، وأظن أن هذا يا أستاذ ما عاقني عن السؤال عنك «ولا مؤاخذة».. وإن شاء الله أقابلك قريبا، ونشوف مين فينا يغلب التاني، ويجيب الحق عليه. وقد سألت عنها، فعرفت أنها في مدرسة الفنون التطريزية بشبرا.. وأن لها أختين أكبر منها، وأنها لا يمكن زواجها إلا بعد زواجهما.. وأنا أعمل كل جهدي الآن حتي أنقل لمصر. وعسي أن يصلني منك جواب علي سلاح الإشارة قريبا.. وبعد هذا الامتحان سأضايقك من الزيارات. وسلامي إلي الست الوالدة والسيد الوالد، والأخوة جميعا. وتقبل سلام وقبلات جمال عبد الناصر تحريرا في 28 مايو 1939 مرة أخري هل يعقل أن تظل هذه الرسائل بخط يد الزعيم الراحل إرثا لأسرة الراحل المستشار حسن النشار أم تكون في متحف خاص لثورة يوليو تحت إشراف الهيئة القومية لكتابة تاريخ مصر التي كلي أمل ورجاء في أن تكون تحت رعاية زعيم مصر عبد الفتاح السييسي.