ليست القصة في هشام جنينة، ولا في محاكمته الجارية بدعوي نشر أخبار كاذبة، ولا في تقريره الشهير المحجوب عن النشر، والذي حاولنا نشره فأصابنا ما أصابنا، وقصفت الأقلام وطويت صحفنا، وتصور الذين صادروا فرصة النشر المباح، أنهم حصلوا علي كأس العالم في التعتيم، وأنهم حجبوا نور الشمس بأصابعهم، بينما يعرف كل مصري منصف اسم الحقيقة وعنوانها وتفاصيلها، فليس بوسع أحد أن ينكر إنجازا يجري كالإعجاز، يقوم به الرئيس اعتمادا علي هيئات الجيش بالأساس، وكما أنه ليس بوسع عاقل إنكار الإنجاز الهائل، فليس بوسعه في ذات الوقت إنكار الفساد المهول في الحكومة وجهاز الدولة وملحقاته الأمنية، وهو الفساد الذي يضبب الصورة، وينخر في بدن البلد، ويحول دون التعبئة الشعبية المستحقة وراء إنجازات الرئيس. وللحق، فإن الرئيس السيسي نفسه لا ينكر خطورة تفشي الفساد، ولا تغيب عنه حقيقة توحش النهب العام، وذكر في افتتاح واحد من الإنجازات الكبري رقما مذهلا، وأمر القوات المسلحة باستعادة 300 ألف فدان، استولي عليها المعتدون في الشهور الأخيرة وحدها، كما قرر تكليف الجيش بحماية أراض استراتيجية من حول الطرق الجديدة، وبعمق كيلومترين يمينا ومثلها يسارا، وتأمل من فضلك الرقم الذي ذكره الرئيس، فالفدان الواحد تبلغ مساحته 4200 متر مربع كما هو معروف، والسعر السوقي لفدان الأرض كمباني علي الطريق يصل إلي عشرة ملايين جنيه علي الأقل، واحسبها أنت، ودون أن تضيع في حسبة برما، فالمقابل النقدي للثلاثمائة ألف فدان يصل إلي ثلاثة آلاف مليار جنيه، أي ثلاثة تريليونات جنيه، وبما يساوي اجمالي ديون مصر المتراكمة في عشرات السنوات، ويساوي خمسة أمثال رقم الستمائة مليار جنيه الذي اشتهر به تقرير هشام جنينه، والذي أقام الدنيا فلم يقعدها بعد، مع أن الرقم المتهم كان حصاد ثلاث سنوات من النهب والفساد المتوحش، وبواقع 200 مليار جنيه فسادا لكل سنة في المتوسط، وهو تقدير خجول ومتواضع جدا قياسا لما كشف عنه الرئيس السيسي في خطاب عام، وكلف الجيش بإنقاذ أصوله، وفرض سيطرة الدولة عليها قبل أن تضيع نهائيا، وندخل في دورة نهب جديدة لا ترحم البلد المنهك. واللافت، أن الرئيس كلف القوات المسلحة بالمهمة، ليس فقط لأنه يثق في كفاءة وانضباط وقوة وحسم الجيش، بل لأنه لا يثق في سلامة أحوال الحكومة والجهاز الإداري للدولة، فقد سبق للرئيس أن انتقد علنا فساد وتضخم وانعدام كفاءة جهاز الدولة، وإلي درجة وصفه بشبه الدولة، وهو ما يدفعه للإفراط في الاعتماد علي هيئات الجيش، وتكليفه بإدارة والإشراف علي المشروعات الكبري في كل اتجاه، وفي ورشة عمل هائلة غير مسبوقة، يعمل بها ما قد يزيد علي مليوني مهندس وفني وعامل مدني، بينما لا تجد مشروع عمل واحدا ناجحا يديره جهاز الدولة خارج الجيش، ولا تجد غير إدمان العجز والفساد، والحكومات المؤلفة من خدم «رأسمالية المحاسيب»، وقد ابتغي هؤلاء إعادة سيرة رجال المخلوع ونجله جمال مبارك، وابتدع هؤلاء خطط تأليف حكومات رجال الأعمال، والتعود علي تنفيذ وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، وإدارة الاقتصاد بالوكالة عن الأجانب ولمصلحتهم، وإغراق مصر في الديون، ومع فوائض «الخصخصة» و»المصمصة»، وهو ما قاد إلي انهيار البلد، وتراكم الثروات بالتريليونات في أيدي القلة المحتكرة، وتكون شريحة الواحد بالمئة التي تملك نصف إجمالي ثروة البلد، والتي عملت في خدمتها حكومات رجال الأعمال أيام مبارك، وتنسج علي منوالها حكومات الخدم من عينة «الفرز العاشر» الآن، وتريد فتح الأبواب لخصخصة ما تبقي عبر البورصة، والتعاون مع رجال «رأسمالية المحاسيب» للتصدي لرأسمالية الجيش الجديدة، وإكمال أطواق السيطرة علي «الميني برلمان» المنتخب من «الميني شعب»، وهو ما يفسر ارتفاع الأصوات في البرلمان ضد تحرك الجيش لاستعادة الأراضي المنهوبة، فالمطلوب عندهم هو العودة للاستيلاء علي أراضي الدولة التي تبيض ذهبا، والتي كونت غالب الثروات الحرام المسيطرة علي مشاهد الاقتصاد والإعلام والبرلمان الآن، والتي تخوض حربا ضارية للدفاع عن امبراطورية الفساد، وعن تحالف البيروقراطية الطفيلية مع أمراء «رأسمالية المحاسيب»، وتزور الحقائق بصدد الذي يجري في مصر الآن، وتخلط الحق بالباطل، وتدعي أن الأولوية الآن للحرب ضد الإرهاب، وهذا كلام صحيح جزئيا، لكنه الحق الناقص الذي يراد به حماية الباطل وتحصينه، فالحرب ضد الإرهاب واجبة في كل وقت، ودون أن تحجب أو تؤجل الضرورة القصوي للحرب ضد الفساد، والأخير ينخر كالسوس، ويصيب الدولة بداء «الإيدز» المحطم للمناعة، ويأكل ما تبقي من عافيتها، ولا يستثني قطاعا في الدولة إلا وضربه، وعلي نحو ما يعرف الناس في قضايا الفساد الكبري المحظور النشر فيها وعنها. والحرب ضد الفساد هي التي ترفع الروح المعنوية للناس، وهي التي تشعرهم بنسمات الأمل، وإمكانية العيش في هواء نظيف، فلم تعد من وسيلة للإخفاء أو التخفي بالفساد الزاكم للأنوف، ولا للتهوين من شأنه وضرره، وحتي لو جري تكميم كل الأفواه وقطع كل الألسنة، فالفساد في مصر صار خبزها اليومي من زمن بعيد، وتحول إلي مؤسسة مسيطرة تعظ وتسرق وتحارب إنجازات الرئيس، وتفرغها من مضامينها الصانعة للأمل، وتنشر اليأس والقمع والغلاء باسم الرئيس، وتحول حياة الناس اليومية إلي جحيم، وتتجبر علي الفقراء والطبقات الوسطي بخفض الدعم وزيادة الجباية والإتاوات الحكومية، وتجعل إنجازات الرئاسة والجيش بعيدة عن العين والقلب، فالرئيس السيسي يبدو كمن يركب طائرة، يطير بها، وبأقصي سرعة، إلي حيث إنجازاته الكبري في «مصر الجديدة»، قافزا علي مفاسد مصر القديمة، وتاركها علي أحوالها المهلكة، وهو ما يزيد الخطر علي « طائرة الإنجازات « من جاذبية الفساد الأرضية.