ليست الشخصيات العامة بقامة المستشارين طارق البشري، وأحمد مكي ، وحسام الغرياني وأمثالهم، معصومين من الخطأ، أو محصنين ضد النقد الموضوعي مهما احتدت نبرته، أو تمادت أساليبه. علي الأخص إذا كان الأمر متعلقاً باسهامات سياسية تتعلق بمستقبل الوطن. لكن هذه النوعية من الهجوم المتجاوز وغير المبرر التي يتعرض لها الرجال الثلاثة في الشهور الأخيرة قد تجاوزت الحد، وأضحت أداة في الاستقطاب السياسي الممجوج الذي يهدد بلادنا بأوضاع أسوأ من تلك السابقة علي ثورة يناير، استقطاب كاد يصل بواحد من أهم رجال مبارك وخلصائه إلي موقع أول رئيس للجمهورية بعد ثورة يناير. التوجه الإسلامي ذو الطابع القانوني والقضائي غير المسيس فيما يخص مكي والغرياني، والطابع الفكري الفلسفي بعيدا عن الممارسة السياسية العملية فيما يخص البشري،معلوم للكافة منذ عقود. (رفض الرجال الثلاثة تباعاً فكرة الترشح لمنصب رئيس الجمهورية عند طرحها بقوة في وقت من الأوقات،بينما قبل مكي والغرياني بموقعي وزير العدل ورئاسة الجمعية التأسيسية بما يؤكد غلبة الطابع القانوني والقضائي البحت علي إسهاماتهما في المجال العام ). وبهذا التوجه أسهم الرجال الثلاثة في فاعليات قانونية وقضائية، ومحافل فكرية متعددة حرص منظموها من مختلف القوي والاتجاهات علي تصدرهم لمنصاتها خلال سنوات طويلة سابقة علي ثورة يناير. فلا تنكر الرجال لميولهم الفكرية ذات الطابع الإسلامي، ولا سجل أي من أطياف النخبة المصرية عليهم انتماءً لجماعة الإخوان أو أي مجموعة سياسية إسلامية طوال تلك الفترة.بل إن أهم وأقوي نقد حقيقي لممارسات جماعة الإخوان المسلمين بعد فوزها بانتخابات البرلمان الأخيرة كان ماسطره المستشار طارق البشري في مقال بجريدة الشروق تفضلت بتنبيهي إليه بل وإرساله إلي المناضلة اليسارية صفاء كريمة المناضل الشيوعي الكبير الراحل زكي مراد. أما الذنب الذي جناه البشري وجعله عرضة لهذا الهجوم الذي بلغ -أحيانا- حد الاسفاف، فهو رئاسته للجنة التي قامت باقتراح التعديلات علي دستور 1971 وهي لجنة شكلها المجلس العسكري الذي تولي السلطة عقب رحيل الرئيس المخلوع، والذي كان قد سبق له تشكيل لجنة مماثلة بذات المهمة من مجموعة كبيرة من فقهاء الدستور والقانون. أما تهمة البشري فهي أن التعديلات التي قام بإدخالها كانت مبيتة لتمكين الإخوان من أغلبية البرلمان. ويتنكر هؤلاء لحقيقة أنه عند وضع هذه التعديلات، وإلي إعلان نتائج الانتخابات، فإن أحداً من مهاجمي البشري ولا مناصريه بمن في ذلك الإسلاميون أنفسهم ،كان يتوقع فوز التيارات الإسلامية مجتمعة بأكثر من 30٪ من مقاعد البرلمان.ولو أحسن المهاجمون قراءة التعديلات بل وقراءة الإعلان الدستوري الذي تلاها وتضمنها لعرفوا كم كانت هذه النصوص رائعة في إزالة أي سند قانوني يسمح لرئيس الجمهورية بالهيمنة علي النظام السياسي الجديد، وهو الخوف الأساسي الذي سيطر علي جميع أطياف النخبة السياسية في حينه،ولكن هذا وذاك ليسا موضوعنا الآن. أما حملة الهجوم علي المستشار احمد مكي فعنوانها قانون وحدة القضاء الذي ما يزال الرجل علي قناعته بمشروعه الناتج عن مناقشات مؤتمر العدالة عام1986. ورغم علم الجميع أنه لم يكن ثمة تواجد حقيقي أو مؤثر لل"إخوان"في مداولات ذلك المؤتمر، الذي قاد مناقشاته أساطين القضاة والمحامين والفقهاء من أمثال: فتحي رضوان، يحيي الرفاعي، واحمد الخواجه، وحلمي مراد، ومحمد عصفور، ويحيي الجمل، وابراهيم درويش، ومن علي شاكلتهم ممن لايمكن نسبتهم لجماعة الإخوان بأي قدر.لكن المشروع أصبح فجأة من بنات أفكار الإخوان المسلمين، وبغرض حل المحكمة الدستورية العليا انتقاماً منها بسبب حكمها بحل البرلمان الأخير ذي الأغلبية الإخوانية. ويستغل المهاجمون الهجوم الإخواني الأخير علي المحكمة لتأكيد هجومهم علي مكي متجاهلين أن هذه ليست المرة الأولي التي تتعرض لها المحكمة للهجوم الحاد من مختلف الفاعليات السياسية والمجتمعية، هجوم كان أبرزه وأقواه تدافع المئات من كبار تجار القاهرة مع عدد من كبار المحامين إلي عقر دار المحكمة وقت أن كانت في دار القضاء العالي. وكان ذلك بمناسبة حكمها بإلغاء الامتداد القانوني لعقود إيجارات المحلات التجارية. يومها احتشد المهاجمون في ساحة المحكمة فأشبعوها وحكمها هجوماً وتقريعاً من خلال كلمات كبار المحامين، وهتافات المحتشدين.كما تعرضت أحكام المحكمة لهجوم في مناسبات متعددة من ابواق الحكم المخلوع أسفر في إحدي المرات عن إدخال تعديلات علي قانونها فيما يخص الأثر الرجعي لهذه الأحكام،كما كانت قرارات المحكمة بتفسير النصوص القانونية علي هوي النظام السابق موضع هجوم شديد من قوي المعارضة الوطنية التي تدافع عنها الآن. يعلم كثيرون أننا متحفظون علي قانون "مكي"الذي يتجاهل حقيقة الحال في القضاء المصري، بل ويتجاهل الأزمة التي أثارها المشروع نفسه في مؤتمر العدالة حيث ووجه باعتراضات بالغة من ممثلي مجلس الدولة الحاضرين في المؤتمر، لكن العارفين بمكي أيضاً يعلمون مايميزه من مثالية قد تدفعه إلي مواقف غير عملية. عقب صدور حكم الدستورية بعدم دستورية قانون مجلس الشعب أعلنا رأينا بأن احترام الحكم يوجب تعطيل أعمال مجلس الشوري، ووقف أعمال الجمعية التأسيسية لوضع الدستور تمهيدا للتوافق علي آلية جديدة لتشكيلها. لكن ذلك لايدفعنا بأي قدر للقبول بالهجوم -الأقل حدة -بحق المستشار حسام الغرياني- أحد أهم الرموز التاريخية لمعارك استقلال القضاء- لقبوله عضوية ورئاسة هذه الجمعية. إن قناعتنا راسخة في أن المجتمعات الرشيدة، والنخب السياسية الناضجة لايمكن أن تسمح للاختلاف السياسي أن يتسبب في إهدار قيم رجال يعرف الجميع أنهم عضوا علي استقلالهم بالنواجز، ورفضوا بإصرار الانسياق وراء الصراعات السياسية،وحددوا لأنفسهم بحسم نوع الزاوية التي يسهمون بها في قضايا أوطانهم رافضين في كل وقت مغريات التنازل ومزاياه، متحملين في كل وقت متاعب الثبات علي المبدأ ومخاطره، فصنعوا لأنفسهم بهذا الموقف مساحة خاصة في الضمير العام للوطن تستعصي علي الهجوم والإسفاف، وإن كانت -بالطبع- لاتستعصي علي النقد والاعتراض.