أليس هؤلاء وأمثالهم أولي بالمليارات الخمسة من حفنة مصدرين؟! انطباعاتك عن أي موقف أو قرار، وعن أي مشهد أو صورة، تتحدد من المكان الذي تقف فيه، ومن الزاوية التي تطل منها. كلما ابتعدت في مكانك، تري جوانب أوسع وأبعادا أعمق، وكلما اخترت زاوية تجد تفاصيل لا تبين لك، إذا نظرت من زاوية أخري. في مسألة دعم الصادرات، أقف في موقع يجعلني أشاهدها في غير أولويات موازنة مثقلة، وأطل من زاوية تجعلني أراها في غير ضرورات مجتمع مُنهك. المبلغ المخصص لدعم الصادرات - بالأحري لدعم المصدرين - في موازنة (2014/2015) كان 2٫5 مليار جنيه، زاد في الموازنة الحالية (2015/2016) إلي 3٫5 مليار جنيه. والمقترح في الموازنة الجديدة (2016/2017) رفعه إلي 5٫1 مليار جنيه، بينما يريد المستفيدون من المصدرين زيادته إلي 6 مليارات جنيه! الحجة جاهزة، وهي تمكين الصادرات المصرية من النفاذ إلي أسواق جديدة، ومن المنافسة مع سلع وبضائع مماثلة تنتجها دول أخري. وبالتالي زيادة موارد الدولة من النقد الأجنبي، في وقت تدهورت عائدات السياحة بسبب الأحداث الإرهابية، وتناقصت تحويلات المصريين العاملين بالخارج نتيجة ارتباك سعر الصرف، وانخفضت ايرادات قناة السويس انعكاسا لتباطؤ حركة التجارة العالمية.
لست أقول إن مصر هي الدولة الوحيدة التي تدعم صادراتها، أو المصدرين فيها، ولكن هناك أسئلة ملحة لابد من طرحها، ويتعين الإجابة عليها بروح تدرك واقع الظروف التي تمر بها البلاد: هل حققت زيادة اعتمادات دعم الصادرات بمليار جنيه في العام المالي الحالي عن العام السابق، الهدف منها، أي هل زادت حصيلة الصادرات من النقد الأجنبي بالقدر الذي يدفعنا إلي أن نزيد المخصص لدعم الصادرات في العام المالي الجديد بمبلغ 1٫6 مليار جنيه علي الأقل؟! هل يذهب هذا الدعم إلي المصدرين أصحاب المشروعات كثيفة العمالة، أم إلي مجموعة بعينها تزداد ثراء علي حساب دافعي الضرائب، الذين هم في أغلبهم من موظفي الدولة والعاملين بالقطاع الخاص؟! الأهم.. هل نحن في ترف أن ندفع 5٫1 مليار جنيه لبعض مصدري القطاع الخاص من المال العام، بينما الموازنة تعاني من عجز خطير في حدود 309 مليارات جنيه؟! كيف تقدم الحكومة أو يطاوعها ضميرها الاجتماعي علي أن تخفض الاعتمادات المخصصة لمعاشات الضمان الاجتماعي من 11 مليار جنيه الي حدود 9٫5 مليار في الموازنة المقبلة، بينما يزداد دعم المصدرين في نفس الموازنة بمبلغ مماثل لقيمة الخفض؟! كيف تتحدث الحكومة عن إجراءات اقتصادية مؤلمة مرتقبة خلال العام المالي الجديد، ولابد أن يعاني من أوجاعها أبناء الطبقة الوسطي والفقراء مهما كانت القرارات المصاحبة لتخفيف حدة الآلام، بينما هي تمد مظلة رعايتها لحفنة من الأغنياء علي حساب الفقراء بحجة أنهم مصدرون؟! هل هناك منطق في حديث عن ترشيد الدعم المقدم للمواطنين المصريين، بينما نحن ندعم المستهلك الأجنبي الذي يشتري السلع والبضائع المصرية؟! كيف نتكلم عن توجيه الدعم لمستحقيه، بينما كل مواطن مصري سيتحمل - طبقا للموازنة الجديدة - قرابة 60 جنيها سنويا لدعم المستهلكين الأجانب؟!
أدعي - وادعائي صحيح - أن الدولة قدمت فعلا للمصدرين منذ أسابيع أكبر دعم يمكن أن يتلقوه، وهو خفض سعر الجنيه مرة واحدة بنسبة 14٫5٪ أمام الدولار، أي أن من كان يصدر بمليون دولار زاد عائده مليونا و120 ألف جنيه مرة واحدة، دون جهد منه، لو افترضنا أن نصف مدخلات إنتاج هذا المصدر مستوردة، لكانت أقل زيادة في عائده من قرار خفض قيمة الجنيه هي 560 ألف جنيه عن كل مليون دولار صادرات. بينما يعاني من خفض الجنيه الذين غلا عليهم سندويتش الفول المستورد فومه وزيته، وعلبة الكشري المستورد عدسها! ثم إن المصدرين مدعومون فعلا، بكهرباء تباع لمنشآتهم بأقل من سعرها العالمي، ووقود مدعوم أهمه السولار، وعاملون في مزارعهم ومصانعهم ما كانوا ليحصلون علي الأجور التي يتقاضونها، وهي أقل من أقرانهم في الدول المصدرة، لولا أنهم يحصلون علي سلع غذائية مدعمة، وكهرباء منازل مدعمة، ومعظمهم يلحقون أبناءهم بتعليم حكومي مجاني أو مدعوم. الأغرب.. أن الشركات العامة المصدرة، مطرودة من جنة دعم الصادرات الذي يستحوذ عليه بعض مصدري القطاع الخاص دون غيرهم!
سؤالي بوضوح.. أيهما أجدي اجتماعيا وأمنيا وربما اقتصاديا أيضا أن تقدم الدولة ما يزيد علي 5 مليارات جنيه لمجموعة بعينها من المصدرين بذرائع تبدو نظريا ذات جدوي، لكنها واقعيا بلا مردود مقابل ملموس، وفي توقيت نحن أحوج ما نكون لتوجيه كل مليم إلي مصرفه الأنسب طبقا لسلم الأولويات، أم توجه هذه المليارات الخمس وهي منح مباشرة إلي أمور لعلها أكثر عائدا علي الدولة والمجتمع والنظام في هذا الظرف السياسي الاجتماعي الأمني الدقيق؟! عفو الخاطر.. أقترح بعض البدائل في إنفاق هذا المبلغ، أحسب أن كل واحد منها أجدي وأعدل وأكثر تعبيرا عن أولويات المجتمع وما أظنه توجهات النظام. مد مظلة معاشات الضمان الاجتماعي من 2٫6 مليون أسرة إلي 3 ملايين أسرة، مع زيادة المخصص لها من 9٫5 مليار جنيه إلي 14٫5 مليار جنيه، بحيث يزداد المعاش من 325 جنيها إلي 500 جنيه شهريا للأسرة البسيطة ومن450 جنيها إلي 600 جنيه للأسرة المكونة من 5 أفراد فأكثر. مضاعفة عدد المستفيدين من معاشي كرامة وتكافل البالغ عددهم 510 آلاف مستفيد، للتوسع في هذا المشروع الناجح الذي أطلقه الرئيس السيسي، ويحصل بموجبه المعاق أو كبير السن علي معاش قدره 350 جنيها شهريا من برنامج «كرامة» وتحصل المرأة في الأسرة الفقيرة وفق برنامج «تكافل» علي معاش شهري قدره 325 جنيها ومعها 60 جنيها لكل ابن في الابتدائي و80 جنيها عن الابن في الإعدادي ومائة جنيه عن الابن في الثانوي، شريطة الانتظام في الدراسة والحصول علي التطعيمات. تفعيل برنامج التغذية المدرسية، لبناء جيل صحيح البدن، والحد من ظاهرة التسرب من المدارس. وبحسبة بسيطة نجد أن المليارات الخمس تكفي تغذية ثمانية ملايين تلميذ في شهور الدراسة السبع بتكلفة متوسطها 3 جنيهات يوميا للتلميذ. زيادة الدعم المقدم للمستفيد من الإسكان الاجتماعي بمبلغ 10 آلاف جنيه لنحو 500 ألف مستفيد. إنشاء كتائب خدمة وطنية ينضم إليها الراغبون الذين انتهت خدمتهم العسكرية من أصحاب التخصصات التي تحتاجها مشروعات البنية الأساسية واستصلاح الأراضي والتشييد والنقل، وتشغيل قرابة 170 ألف شاب في هذه الكتائب بأجر شهري يصل إلي 2500 جنيه، مما يقلل من تكلفة هذه المشروعات ويسرع بإنجازها ويحد من البطالة. تقديم قرض حسن - لا أقول منحة - قدره مائة ألف جنيه لخمسين ألفا من أوائل خريجي الكليات بالجامعات المصرية بواقع عشرة آلاف خريج لكل دفعة من الدفعات الخمس الأخيرة بنسبة 1٪ من خريجي كل كلية، علي أن يسدد القرض علي عشرين عاما، بحيث يبدأ كل مستفيد حياته بمشروع خاص، كعيادة، مكتب محاماة أو محاسبة، أو ورشة أو مشروع صغير، تشجيعا للتفوق وتحفيزا علي الاجتهاد، مع اشتراط ألا يعمل الخريج في جهات أو شركات حكومية. أقول سيستفيد من القرض - لا المنحة - خمسون ألف شاب مجتهد، لا مجرد عشرات أو مئات المصدرين يحصلون علي منح تزيد ثرواتهم من أموال الشعب. إنشاء محطات صغري للصرف الصحي في 2500 من القري المحرومة، تقي أبناءها شر الأمراض، وتوفر لهم الحق في حياة لائقة. لنا تجربة في إحدي قري الفيوم تبنتها «ليلة القدر» في مؤسسة مصطفي وعلي أمين، وسنكررها في إحدي قري سوهاج. المحطة قيمتها مليون جنيه، وهي مصرية الصنع، وإنشاءاتها تتكلف مليون جنيه أخري. (25002 مليون = 5 مليارات جنيه)، أنفع لأبناء 2500 قرية فقيرة، وللشعب، وللدولة من عشرات أو مئات المصدرين. أليس كذلك؟! ........ كل بند مما سبق أنفع وأجدي - في نظري علي الأقل - من تقديم الدعم المالي لبعض المصدرين، وإذا تمكنا من توفير مبلغ مماثل للمليارات الخمسة، من مصارف أخري في الموازنة، لاستطعنا تدبير موارد بندين مما ذكرت. بالمناسبة لست أعرف - وأنا صحفي - أسماء المستفيدين من منح دعم الصادرات ونصيب كل منهم من هذه الكعكة. ولم أقرأ - ولو من باب الشفافية - أن صندوق دعم الصادرات أصدر قائمة بالأسماء والمبالغ!.. ومن ثم لا أعرف إسهاماتهم في خدمة المجتمع وصندوق «تحيا مصر» مما افاضت عليهم الدولة من أموال الشعب!
حتي لو كان هناك إصرار - لا أفهمه - علي دعم المصدرين، بنية حسنة - قد أتفهمها - هي جلب عملات أجنبية، أليس الأفيد - مثلا - أن ننظم حملة عالمية بعنوان: «سافر إلي مصر مجانا»، نقدم فيها تذكرة سفر وعودة مجانية - بمتوسط 2500 جنيه للتذكرة فنستقدم 2 مليون سائح إلي مقاصدنا السياحية بالأخص شرم الشيخ، خلال عام واحد، من أسواق لم تقاطعنا أو أسواق جديدة، مثل الصين والهند وشرق أوروبا، وشمال أفريقيا. فإذا أنفق كل سائح فقط ألف دولار ما بين إقامة في الفنادق، ومأكولات، ومشتروات أو تذكارات، لكانت الحصيلة 2 مليار دولار أي نحو 18 مليار جنيه، في مقابل المليارات الخمس قيمة التذاكر، ولكان العائد عدم إغلاق أبواب العمل والرزق أمام مئات الآلاف من العاملين بمجالي السياحة والفنادق في هذه الظروف القاهرة، ولظلت أنوار شرم الشيخ وغيرها غير مطفأة!
هذا رأيي في مسألة دعم الصادرات، والله من وراء القصد، والشعب لا سيما الكادحون من أبنائه. وتلك أسانيدي ومقترحاتي - ولابد أن لغيري بدائل علي نفس الدرب لعلها أفضل - أضعها أمام الرئيس السيسي قبل مناقشة الموازنة العامة في البرلمان، وأتمني أن تُترجم انحيازه للفقراء، حكومة لها نفس الموقف وزاوية الرؤية!